على الولايات المتحدة أن تذيب الجليد مع روسيا!
لا أحد ينكر أن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا شهدت أياماً أفضل بكثير، فعلى الرغم من محاولة ترامب تحسين الروابط بين البلدين، تتبادل واشنطن وموسكو العداء، وتحمّل الدبلوماسيون الأميركيون معظم أعباء هذه التقلبات، وفي أحدث مثال على الترهيب الروسي، عمد الكرملين بشكلٍ تعسفي إلى تأخير إجلاء ملحق عسكري أميركي مريض من العاصمة الروسية في شهر أغسطس الماضي.قد تتدهور العلاقات بين أي قوتين نوويتين عظيمتَين دوماً، ولهذا السبب تحديداً يجب أن تحاول واشنطن وموسكو تجنب أي تدهور إضافي، فخلال العقود التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، نشأت اضطرابات كثيرة بين روسيا والولايات المتحدة، ولا يزال قادة السياسة الخارجية في واشنطن مستائين جداً من الوضع الذي وصلت إليه روسيا في عهد فلاديمير بوتين: لقد أصبحت قوة متخاذلة تحاول استرجاع جزءٍ من مجدها الغابر في الحقبة السوفياتية من خلال إطلاق حملات تضليل واسعة في الغرب، وتقديم حبل نجاة اقتصادي وعسكري وسياسي إلى الحكومات الكليبتوقراطية، بدءاً من سورية وصولاً إلى فنزويلا. في المقابل، يشعر صانعو السياسة في موسكو بالغضب ولا يثقون بالنوايا الأميركية، ويعتبرون حملات تغيير الأنظمة التي تقودها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتوسّع حلف الناتو طوال عقدَين حملة مُركّزة لهزم روسيا وكبح قدرتها على المناورة.تدهور الوضع القائم لدرجة أن اللقاءات الرسمية بين رئيسَي البلدَين باتت الآن مُدانة وخطيرة وساذجة بعدما كانت تُعتبر ممارسة نموذجية، ففي العاصمتَين معاً أصبحت الدبلوماسية الثنائية أسيرة عقلية "المحصلة الصفرية" (ما يربحه طرف يكون على حساب الطرف الآخر). نتيجةً لذلك، باتت الكفاءة السياسية محصورة ومقيّدة. أمام واشنطن وموسكو طريق طويل قبل أن تتمكنا من استرجاع علاقة مستقرة، وبالتالي لا يزال الوقت مبكراً للتكلم عن سبل تحسين تلك العلاقة. حتى إننا قد نضطر لانتظار ظهور جيل جديد من القادة الأميركيين والروس قبل أن يُستبدَل العداء المتبادل ببراغماتية بناءة. من السذاجة أن نظن أن الولايات المتحدة وروسيا تستطيعان حل جميع المسائل التي تفرّقهما، لكن يمكن التركيز في المقام الأول على ترسيخ الاستقرار والثبات على المستوى الاستراتيجي. في ظل وجود أكثر من 12600 سلاح نووي بيننا، ليس مبرراً أو مقبولاً أن نسمح بتفكك نظام منع انتشار الأسلحة الذي سيطر على ترسانات اثنتَين من أكبر القوى النووية في العالم. سيكون الانسحاب من اتفاقيات مثل "معاهدة الأجواء المفتوحة" (تهدف إلى نشر الشفافية العسكرية للحد من حالات سوء التفاهم والحسابات الخاطئة) وصفة مثالية لتصعيد التوتر، ولا بد من معالجة المخاوف المشروعة حول الانتهاكات الروسية، مثل حصر رحلات الاستطلاع في الكيان الفدرالي الروسي "كالينينغراد"، بالطرق الدبلوماسية بدل استعمالها كعذر لتدمير الاتفاق بالكامل. حتى أن الامتناع عن توسيع معاهدة "ستارت" الجديدة (الاتفاق الذي يحدد عدد قاذفات القنابل والرؤوس النووية المنتشرة على كل جانب)، بانتظار اتفاقيات وهمية أكبر وأفضل وأكثر طموحاً، يفتح المجال أمام إطلاق سباق تسلّح محتمل في القرن الواحد والعشرين. لن يستفيد الأمن القومي الأميركي من السماح بانتهاء صلاحية "ستارت" الجديدة، وبالتالي خسارة جميع آليات التواصل والاستكشاف التي تسمح بالتحقق من البنى التحتية الخاصة بالأسلحة النووية في موسكو. المعادلة الأساسية بسيطة لكنها مهمة بالقدر نفسه: كلما تراجعت القدرة على إجراء التحقيقات وجمع المعلومات، كان من المتوقع أن يتعمق انعدام الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا. هذا السيناريو غير نافع، حتى أنه غير منطقي بأي شكل، نظراً إلى سهولة تجنب الكارثة المحتملة.
لا داعي كي تصبح واشنطن وموسكو من أفضل الأصدقاء كي تتعامل العاصمتان مع بعضهما، لا سيما إذا كانت المشكلة الشائكة خطيرة وتتعلق بالاستقرار النووي. بالنسبة إلى قوتَين تملكان 90% من المخزون النووي في العالم، يقضي الخيار الحكيم الوحيد بالحفاظ على درجة من التعاون الاستراتيجي. إذا تمكّن المسؤولون الأميركيون والروس من تحقيق هذا الهدف خلال أحلك أيام المنافسة في الحرب الباردة، فلا شك أنهم يستطيعون القيام بالمثل اليوم.قريباً، ستصبح المفاوضات الجديدة ضرورية لمعالجة توسّع انتشار الأسلحة المتقدمة، ومن الأسهل حينها صياغة قواعد جديدة في ظل وجود نظام منع انتشار الأسلحة وليس غيابه. مع انتهاء صلاحية معاهدة "ستارت" الجديدة في فبراير 2021 وزيادة هشاشة "معاهدة الأجواء المفتوحة"، يتعين على واشنطن أن تستعمل ذكاءها قبل إهدار لحظة محورية أخرى. * دان ديبيتريس* «ريل كلير»