الأمر الأكثر ترويعا بشأن إجراءات اتهام ومساءلة رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب هو أنها تفشل تماما في تلبية الأساس الدستوري لهذه القضية، صحيح أن بعض الديمقراطيين في مجلس النواب، وخاصة آدم شيف من كاليفورنيا، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، يدركون مدى جدية وخطورة المسألة المطروحة عليهم، لكن أغلب الجمهوريين- بتحريض من ترامب الذي يشكو غالبا من أنهم لا يجتهدون بالقدر الكافي في خدمته- يبدون أشبه بمن خرج في مهمة بحث وتدمير، ويبدو أن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، التي كانت لفترة طويلة مُـمانِعة للشروع في إجراءات الاتهام والمساءلة، فقدت السيطرة على كتلتها الحزبية حول هذه القضية هذا الصيف وانتهى بها الأمر إلى حيث كانت تخشى: في معركة حزبية مريرة.مع إدراكها للخطر المتمثل بتقديم سابقة مؤسفة من خلال السماح لترامب بالاستمرار في ممارسة انتهاكاته الأخرى للسلطة دون عقاب، عملت بيلوسي على تضييق التحقيق الخاص بتوجيه الاتهام إلى الرئيس بحيث لا يتجاوز النشاط الرئاسي الذي تتوافر أدلة كافية تؤكده، والذي تعتقد هي وحلفاؤها الديمقراطيون أن عامة الأميركيين يمكنهم أن يفهموا أبعاده بسهولة، وهذا يعني أن ترامب وحلفاءه لديهم هدف محدود للغاية يصوبون نحوه.
وعلى هذا فإن التحقيق يركز على حقيقة مفادها أن ترامب اقتطع 391 مليون دولار من المساعدات العسكرية التي خصصها الكونغرس لأوكرانيا وأبقى على احتمال عقد اجتماع في البيت الأبيض، والذي يرغب بشدة رئيس أوكرانيا الجديد فولوديمير زيلينسكي في عقده، في حين كان هو وشركاؤه يمارسون الضغوط للحصول على الدعم السياسي في انتخابات 2020 في الولايات المتحدة، وهم يريدون على وجه الخصوص حمل أوكرانيا على التحقيق في أنشطة نجل نائب الرئيس السابق جو بايدن (هنتر) الذي قَبِل في تصرف غير حكيم مقعدا مريحا في مجلس إدارة شركة غاز أوكرانية في وقت كان والده مسؤولا عن السياسة الأميركية في التعامل مع أوكرانيا. (نفى بايدن ونجله ارتكاب أي مخالفات، وحتى الآن لم يتمكن أحد من إثبات أي منها).ورغم أن الديمقراطيين يحملون بطبيعة الحال مشاعر قوية تجاه ترامب، فإنهم حاولوا مؤخرا تبني لهجة وقورة متزنة. وعندما أعلنت بيلوسي التحقيق الخاص بتوجيه الاتهام إلى الرئيس في شهر سبتمبر، على سبيل المثال، قامت بتسليم زمام قيادة هذه القضية إلى آد شيف الذي يتسم بالثبات والتشدد، بعد انتزاعها من اللجنة القضائية في مجلس النواب التي تتسم بقدر أكبر من الانفتاح، والتي يتولى رئاستها رجل أضعف (غيرولد نادلر من نيويورك).ورغم أنه من الصعب أن نصدق ذلك، فإن الفترة منذ ذلك الحين اتسمت بالهدوء النسبي، حيث قامت لجنة الاستخبارات بجمع الشهادات المغلقة، لكن هذه الحال لن تدوم عندما تبدأ جلسات استماع المساءلة العامة هذا الأسبوع، وللتأكد من أن جانبهم قوي بالقدر الكافي تجاه الشهود، أضاف القادة الجمهوريون النائب المتعنت الصعب المراس جيم جوردان من أوهايو إلى لجنة الاستخبارات.الواقع أن جلسات الاستماع المغلقة- وهي ممارسة معتادة في مسائل التحقيق، وعلى عكس الحال مع الرئيسين ريتشارد نيكسون وبِل كلينتون، لا يوجد الآن مدع خاص لإجراء الأبحاث الخاصة بهذه الجلسات- أنتجت قضية قوية ضد ترامب، وكان هذا راجعا جزئيا إلى حقيقة مفادها أن الصيغة التنسيقية كانت أكثر إنتاجية: حيث لا يكسب أعضاء اللجنة عن طريق التأنق والتفاخر والمقاطعة عند عدم وجود كاميرات، لكن العامل الأكثر أهمية- والذي ليس له مثيل حديث- كان الاستعداد الشجاع من قِبَل عدد من الموظفين الحكوميين غير الحزبيين رفيعي المستوى، وأغلبهم من موظفي الخارجية المحترفين، لعصيان أوامر البيت الأبيض بعدم الظهور، فقد خاطروا بحياتهم المهنية بالمثول أمام اللجنة، وترك بعض هؤلاء وظائفهم لكي يتمكنوا من القيام بذلك.الحق أن ترامب، الذي لا يفهم أي شيء تقريبا عن الحكم، ارتكب خطأ فادحا عندما هاجم مسؤولين عموميين محترفين منذ تولى الرئاسة، وقد استهان بشرف الأشخاص- أو لم يستطع فهمه- الذين يمكنهم كسب المزيد في القطاع الخاص لكنهم يؤمنون بقدسية الخدمة العامة، ثم زاد الأمور سوءا على سوء له ولحكومته من خلال إنشاء مجموعة ظِل- يرأسها رودي جولياني الخارج عن السيطرة على نحو غريب، الذي كان ذات يوم عمدة مدينة نيويورك الذي حظي بقدر كبير من الإعجاب، والذي يمارس الآن مهنة إثارة المتاعب حسب الطلب ويخدم كمحام خاص لترامب- لفرض سياسة الرئيس في التعامل مع أوكرانيا على تلك التي ينتهجها "البيروقراطيون".إن مثل هذه العمليات غير المقيدة "خارج الدفاتر"- سواء كانت "سباكي نيكسون في البيت الأبيض" أو فضيحة "إيران كونترا" أثناء إدارة الرئيس رونالد ريغان- تبوء بالفشل عادة. لقد توليت شخصيا تغطية عزل الرئيس نيكسون، ورغم أن ترامب مذنب نظريا بارتكاب جرائم أشد خطورة، فهناك وجه شبه صارخ واحد: فكلا الرجلين انزلق إلى متاعب عميقة بسبب فشله في إدراك القيود المفروضة على السعي إلى الانتقام من المعارضين السياسيين.كانت إقالة ماري يوفانوفيتش، مسؤولة الخارجية لفترة طويلة والتي حظيت بقدر كبير من الاحترام كسفيرة للولايات المتحدة إلى أوكرانيا والتي حاولت منع التدخل السياسي من قِبَل جولياني (صدرت إليها الأوامر دون تفسير باستقلال أو طائرة إلى الخارج)، في شهر مايو على نحو مفاجئ، سببا في إثارة حالة من الانزعاج الشديد بين المسؤولين البيروقراطيين المحبطين بالفعل في وزارة الخارجية. أما وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي دفعته طموحاته السياسية السافرة إلى البقاء بالقرب من ترامب، فقد رفض ببساطة حمايتها.ربما يرى الجمهوريون في الكونغرس من المذكرة بشأن المكالمة الهاتفية السيئة السمعة التي أجراها ترامب في الخامس والعشرين من يوليو مع زيلينسكي أن ترامب ضغط على نظيره الأوكراني لحمله على اتخاذ إجراءات من شأنها أن تعود عليه بفوائد سياسية، ويعلم كثيرون أيضا أن حجب المساعدات التي أقرها الكونغرس لأوكرانيا يشكل في الأرجح إساءة استخدام للسلطة، وهي جريمة تستوجب العزل، ولكن في سعيهم اليائس إلى حماية الرئيس، تأرجح الجمهوريون من دفاع محبط إلى آخر.وعلى سبيل تشتيت الانتباه، حاولوا تشويه سمعة بل حتى فضح المخبر الذي أثار تقريره التحقيق الخاص بمساءلة الرئيس. على سبيل المثال، صرخ ترامب مؤخرا في وجه الصحافيين المتجمعين أمام البيت الأبيض بأن كل الاتهامات التي ألقاها المخبر "أكاذيب"، حتى رغم أن هذه الاتهامات كانت مؤكدة على نطاق واسع من قِبَل شهود مثلوا أمام لجان. والكشف عن اسم المبلغ عن المخالفات- وهو ما حاول نجل دونالد ترامب بين آخرين القيام به- قد يشكل جريمة فدرالية (إلا إذا قام بها الرئيس)، وقد يعرض حياة ذلك الشخص للخطر.على الرغم من ظهور بعض الصدوع في الجبهة الجمهورية، فيبدو أن ترامب حريص على إحكام قبضته على الحزب في الوقت الحالي، وهو يصر على أن الجمهوريين كانوا سيخسرون الانتخابات الرئاسية في عام 2016 لولاه، وهو لهذا يستحق ولاءهم، كما عرض المساعدة على أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين- وخاصة زعيم الأغلبية ميتش ماكونيل- الذين يسعون إلى إعادة انتخابهم في عام 2020 (خسارة أربعة مقاعد جمهورية كافية لتمكين الديمقراطيين من السيطرة على المجلس). الواقع أن بعض مناسبات جمع التبرعات الكبرى ستُعقَد بطبيعة الحال في فندق ترامب الدولي في واشنطن العاصمة. يقول أحد خبراء الأخلاقيات على الأقل إن المساهمات التي يعرضها ترامب على أعضاء مجلس الشيوخ قبل التصويت على العزل قد تشكل "رشوة" (جريمة أخرى تستوجب العزل).لقد أصبح ترامب أكثر ثقة في غرائزه، والآن لم يعد لديه تقريبا أي مساعدين يتحدون أفكاره، وفي الوقت ذاته يشعر ترامب بقدر متزايد من العصبية والاهتياج إزاء عزله المحتمل في مجلس النواب، ونتيجة لهذا، أصبح الرئيس أكثر اندفاعا وتهورا في إدارته للسياسة الخارجية، وخاصة فيما يتصل بالكارثة في سورية.لقد احترم كل الرؤساء الأميركيين تقريبا واجبهم الدستوري المتمثل في "الحرص على تنفيذ القوانين بإخلاص"، لكن ترامب، من خلال نهج "الدولة أنا، وأنا الدولة"، ينظر إلى دوره على نحو مختلف تماما، وهو نتيجة لهذا أصبح في أعظم مأزق ينزلق إليه طوال رئاسته حتى الآن.* إليزابيث درو* صحافية مقيمة في واشنطن، وأحدث مؤلفاتها كتاب "يوميات واشنطن: تقرير ووترغيت وسقوط ريتشارد نيكسون".«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
أشجان المحاكمة
19-11-2019