مع قرار تشكيل حكومة جديدة في الكويت، يظهر الملف الاقتصادي كأحد التحديات الفاصلة لبيان إن كانت هذه الحكومة جديدة فعلياً في نهجها، أم مجرد تكرار للسياسات السابقة، مع اختلاف الشخصيات فيها.فالملف الاقتصادي وكل سياسات إصلاحه، الحقيقية منها والإنشائية، فضلاً عن القدرة على التصدي للملفات الانتخابية والشعبوية التي تستنفد الميزانية العامة، ظلّت خلال السنوات الماضية مقيّدة بعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على تقديم النموذج المقنع للمجتمع في إجراء معالجات مستحقة، معظمها يحتاج قبل القرار إلى الثقة والجدارة، فالفاسد لا يمكن أن يقدم نموذجاً للإصلاح، والفاشل يصعب عليه تحقيق النجاح، والمتأخر لن يعرف ماهية ومتطلبات التقدم والريادة، وإن أسهب في الحديث عنهما.
فساد وسوء إدارة
وحتى لا يكون الحديث عاماً، فإن الإدارة العامة التي تتورط في ملفات فساد - كالإيداعات المليونية، والتحويلات، واختلاسات التأمينات، وضيافة "الداخلية"، والشبهات في الصفقات والأعمال العسكرية ومن مؤسسات وظيفتها الأولى هي حماية الدولة والمجتمع، بالتزامن مع أوجه فادحة لسوء الإدارة، كالانخفاض الحاد في قيمة الاحتياطي العام، وقبلها غرامة "كي - داو"، وصولاً إلى التعثر في ملفات لا تستحق أصلاً أن تتحول إلى أزمة؛ مثل فشل شركة الدرّة للعمالة المنزلية، أو خراب الطرق بسبب الأمطار - لا يمكن لهذه الإدارة أن تتصدى مثلاً لقوانين ومطالبات شعبوية تتعلّق بإسقاط القروض أو استنزاف أموال ومدّخرات التأمينات الاجتماعية، أو أي قوانين ذات كلفة مالية ومنافع انتخابية دون دراسة اقتصادية للآثار الحالية والمستقبلية وهي موجودة بكثرة في مقترحات نواب مجلس الأمة.فالفساد، وإن كان أبشع من سوء الإدارة، فكلاهما يصبّ في اتجاه عدم كفاءة الإدارة وضعف قدرتها على اتخاذ إجراءات إصلاحية، بل إنه من الأمثلة السابقة نجد مفارقة قد لا تتكرر في أي من دول العالم، وهي أن كلفة ما يتعلق بسوء الإدارة مالياً كانت بالمليارات، في حين تصل كلفة أمثلة الفساد المذكورة إلى مئات الملايين، وبالطبع كلاهما مثال سيئ.مطالبات شعبوية
ولا شك في أن دخول مجلس الأمة عامه الأخير قبل الانتخابات سيكون محفزاً لمزيد من المطالبات الشعبوية، لا سيما في ملفّي إسقاط القروض الذي أقرته اللجنة التشريعية البرلمانية، وأحيل إلى نظيرتها "المالية"، والتعديلات على قانون التأمينات الاجتماعية في نظام الاستبدال لقروض المتقاعدين، وكلاهما سيكلّف المال العام قيمة إجمالية بمليارات الدنانير.في المقابل لن يكون بوسع الحكومة الجديدة - إن سارت على نهج سابقاتها - التصدي لأي منهما، لأن عملية الإصلاح الاقتصادي، والأصعب منها مواجهة القوانين والمطالب الشعبوية، لا تحتاجان إلى برامج عمل أو تكتيكات سياسية، بقدر ما تتطلب إدارة بلا "مقاضب" في ملفات الفساد، وسوء الإدارة من شأنه أن يعطي أمثلة سيئة تثبّط من حجج حتى المعارضين للقوانين الشعبوية.مقاضب وحلول
فشبهات الفساد العلنية والانفلات المالي لدى الحكومة واستنزاف الاحتياطي العام، وعدم القدرة على ضبط الإنفاق أو رفع كفاءته عاماً تلو الآخر، مع اعتراف وزير المالية المستقيل بأن الهدر في الإنفاق الحكومي يوازي 40 في المئة من الميزانية، كلها "مقاضب" تقلل من كفاءة إطلاق أي مشروع اقتصادي جاد يتطلب ربما بعض الإجراءات غير المألوفة أو غير الشعبية، وبالتالي تتعدد الخطط الاقتصادية لتدور حول نفسها من خطة تنمية إلى مشروع استدامة إلى وثيقة إصلاح، وكلها في النهاية وهمية، لا تحقق لمتطلبات الاقتصاد الأساسية من رفع نسبة الدخل غير النفطي أو التركيبة السكانية، أو إصلاح سوق العمل، ولو عشراً من واحد في المئة!وليس أدلّ على هذا العجز عن تحقيق فائدة حقيقية للاقتصاد، من أن الحكومات السابقة منذ تراجع أسعار النفط في منتصف عام 2014، لم تستطع - رغم كثرة استخدامها لأدبيات الإصلاح والتنمية - اتخاذ قرار واحد لم تثبت فائدته أصلاً على المالية العامة، وهو رفع أسعار البنزين، في حين عجزت عن تقديم أي حلول حقيقية، لأن الأمثلة التي تقدّمها على الأغلب سيئة.أهداف ومحاسبة
وربما يكون مدخل الإصلاح في تغيير الأداء الحكومي لتحقيق نتائج تنموية وضع خطة عمل تتعلق من ناحية بتحديد عدد من الأهداف الاقتصادية، والعمل بجدية على تنفيذها دون التراجع عنها، كما حدث مثلا في إلغاء مجلس الوزراء قراره الخاص بوضع سقف لإنفاق الميزانية مدة 3 سنوات، ومن ناحية أخرى التعاطي الجدّي مع ما يرصده ديوان المحاسبة من ملاحظات ومخالفات عادة يقوم وزراء الحكومة بعمل لجان شكلية في معظمها لا قيمة لها، تتولى التحقيق فيها لتتكرر عاماً بعد عام، رغم أن ديوان المحاسبة يعتبر أهم جهة فنية في الدولة، ودوره يتعلّق بتحقيق رقابة فعالة على الأموال العامة لصونها ومنع العبث بها، والتأكد من الاستخدام الأمثل في الأغراض التي خصصت لها، فضلاً عن دور رقابي على أعمال الوزارات، حيث يمتد التعاون إلى متابعة ملاحظاته لمعالجتها، ولعل بعض القضايا الكبيرة التي تكشفت في الفترات الماضية، كانت أولاها من اكتشاف ديوان المحاسبة.هناك بوادر تبيّن وجود جدية في معالجة كل الملفات المتراكمة منذ سنوات، وتجاوز حالة الفشل الاقتصادي إلى مرحلة بناء ثقة المجتمع بالعمل الحكومي، ولعل ملامحها تتحدد مع بداية تشكيل الحكومة الجديدة، ومدى اعتبار عوامل الكفاءة أولوية على سياسات المحاصصة والاعتماد على البرامج بدلا عن عشوائية القرارات، وعندها تكون هناك بداية سليمة توحي أنّ التغيير أبعد من مجرد وجوه تبدّلت.