مدن أوروبا، جواهرٌ ثمينة تزين القارة بأكملها، فتزيدها غنى وإثراءً، كل مدينة أوروبية لها شخصية تميزها عن أخواتها، ونتاج ثقافي عريق يمتد قروناً من الزمن، من باريس إلى بودابست، ومن برلين إلى براغ، كلٌ منها لها عبق مختلف وشيء فريد لتقدمه. تقدر هذه الأمم الفنون، وتخلدها في المعارض والمتاحف، فمازالت اللوحات الفنية الكلاسيكية تعرض في المعارض المؤقتة والدائمة، تجد الزوار يتزاحمون لحضورها، وغالباً ما تنفد تذاكر الدخول لهذه المعارض، كذلك فإن الذائقة الأوروبية تقدر الفن الحديث، ذلك الذي نعتبره– نحن العرب- "خرابيط"! ذلك الفن المجنون الغني بالمعاني والرمزية، بل الشقاوة والعبثية في الكثير من الأحيان، تضع له أوروبا الأهمية ذاتها في متاحفها، كيف لا وأوروبا هي قلب الحداثة؟
المذهل أيضاً هو سرد تلك البلدان لتاريخها بموضوعية، فهي تذكره على الملأ بكل نجاحاته وخساراته لإدراكها أن النقد الذاتي هو مفتاح التطور. لم يكتفِ الأوروبيون بحفظ تاريخهم وتراثهم فحسب، بل كثيراً ما تجد الآثار العربية والإسلامية، بل حتى آثار ما قبل الإسلام، في الحفظ والصون لديهم، ولا شك أن المستعمر الغربي قد "سرق" وأخذ بالقوة الكثير من آثار الشرق الأوسط، ولكن هل نجحنا– نحن العرب- في الحفاظ على آثارنا وتوثيقها بالشكل المطلوب؟ لقد طمسنا الكثير من آثارنا بأيدينا باسم القضاء على الكفر والوثنية، في حين تآكل السواد الأعظم منها بسبب الإهمال والتجاهل. للأسف، فإن العديد من الدول العربية باعت تراثها بنفسها في حين تشهد اندثار ما تبقى منها تحت وطأة الزمن، وتهافت الزوار عليها بلا أي قوانين تحمي هذا التراث.وبالتأكيد، فإن هذا الكم الهائل من الإرث الثقافي والجمال ينعكس على المجتمع، فتجد الأغلبية هنالك بمزاجٍ جيد ومبتسمين، ملتزمين بالقانون والنظام دون الحاجة إلى اللوحات التوعوية العملاقة أو سيطرة الشرطة بصورة ملحة. ولا يمكننا أن نذكر تمدن أوروبا دون أن نذكر فسحة الحرية الواسعة التي يتمتع بها سكانها، فينتجون ويبدعون بلا قيود ويعيشون جودة حياة عالية. أما نحن العرب، فعلى الرغم من الغنى المادي الذي تتمتع به الكثير من دول إقليمنا– الكويت خامس أغنى دولة في العالم- فإننا مفلسون. نعم، إننا نعاني الإفلاس الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل إننا مفلسون أخلاقياً أيضاً! نتزاحم أمام "المولات" والأسواق التجارية، منغمسون في الثقافة الاستهلاكية حتى النخاع، يعيش أغلبنا حياة مزدوجة مليئة بالنفاق الاجتماعي و"اللف والدوران" تحت وطأة سياسات المنع والتحريم القامعة، والتي أنتجت فكراً إجرامياً مريضاً ما زلنا نشهد عواقبه إلى يومنا هذا، مازلنا نسمي المنحوتات "أصناماً" ونستنكر رؤية قارئ يحمل كتاباً، فلا حياة واقعية لنا، لذا نقضي أغلب أوقاتنا أمام شاشات الهاتف هرباً من الواقع المرير.ليس من المعقول تأدية دور الضحية والاستمرار في لوم الغرب على تردي أحوالنا دون أن نحرك ساكناً. تقع على عاتقنا مسؤولية هائلة أخال أغلبنا لا يدرك حجمها المرعب، فنحن متأخرون عن الغرب بعدة قرون على أقل تقدير، لذا لابد من التحرك حالاً نحو الإنتاج الغزير مهما كانت ظروفنا الحالية، بل استخدام قساوة الأحوال كوقود لتوليد هذا النتاج. إنها مسؤولية جمعية، فكفانا لوماً، وكفانا إفلاساً.
مقالات - اضافات
إفلاس
22-11-2019