- 1 - سيرتان معتّقتان، متعانقتان كعناق القنوات المائية في بصرة الطيبين، بصرة إسماعيل فهد إسماعيل ورفاقه الأوفياء الذين حمل أصواتهم، وهمومهم، وأحلامهم الطليعية، ونضالهم الحرّ، في وعيه الخَصِب الزاخر بالمشاهد المتراكمة والمشاعر الهدّارة والتجارب الغنيّة. وصاغها بمخيِّلته المصقولة بتراجيديات الحياة وعواصفها، ما قبلها وما بعدها، من نزق أو من حكمة. واحتفظ بها في ثنايا ذاكرته الروائية المشحونة بالأحداث التاريخية الصاخبة، والأيديولوجيات السياسية وتناقضاتها، والتقلّبات الاجتماعية والروحية والنفسية. السيرة - في كتاب (شجون الحكايا / علاقتي بإسماعيل فهد إسماعيل) للأستاذ محمد جواد - سيرتان تسيران في طريقين يلتقيان في سنة ١٩٨٦ ولا ينفصلان، حتى بعد رحيل المعلّم إسماعيل، في العام الماضي. كأنهما نهران من صفوِ صداقةٍ صادقة، يصبَّان في شطِّ الوفاء. إنك لَتقرأ في إسماعيل أبا مازن، وتقرأ في أبي مازن إسماعيل. ثلاثةُ عقودٍ وعامان، عمر العلاقة "المادي" بينهما، أما "المعنوي"، فسرمديّ. أحقّا ماتَ إسماعيل؟ سؤالٌ فغر فاه على الصفحة البيضاء قبل امتلائها بما جاء من بعد السؤال. كأنه، وأعني أبا مازن، أعاد بمداد قلمه الوفيِّ، الصورةَ والتفاصيلَ التي نعرفها، وتلك التي لم يتيسّر لنا تحليلها. كأنه يُحْييه في داخلك؛ أو قُلْ: كأنه يرجعه إليكَ، أو يأخذكَ إليه، إلى إسماعيل. سباحةٌ أدبية في طفولة الروائي الكبير وشبابه ومحطات حياته، قبل مغادرته العراق في سنة ١٩٦٦ والعودة إليه في الأعوام الثلاثة التي سبقت سفره النهائيّ، بعد انسدال الستار. يطوفُ بالقارئ في مرفأ تطلعاته، ومرتع هواه الأول، في السبيليات، ومن ثم إلى الكويت، وما بينهما من مدن وقرى وعواصم بين الشرق والغرب. كشفٌ موضوعيٌّ دقيق لسنوات الحب والحرب والصمود والمقاومة، والموقف الوطني الأصيل، والعمل التجاري، والعزلة في خضمّ إحداثياتها. غوصٌ أمينٌ - ذو خصائص مجهريَّة - على المكنون في أعماق إسماعيل. هكذا جاء الكتاب منصفا، ومحتفيا بعطاء "راعي النصيفة" الذي لم ينقطع، على الصعيدين، الإنساني والأدبي.
- 2 -أنْ تُرافقَ روائيّاً؛ أنْ تقرأ مخطوطات رواياته، وقصصه القصيرة، ونصوصه المسرحية، قبل الآخرين. أن تُصغي إلى تعليقاته المقتضبة حينا، والمستفيضة حينا آخر. أن تُعاشر قصاصات أوراقه المتناثرة بين بيته ومكتبه وعلى رفوف مكتبته الأنيقة. أنْ تكون القارئ الأول، والمعقِّبَ الأول، والحاضرَ الأول في جميع المناسبات، حتى اللحظة الأخيرة، ساعة نقل الجثمان من البيت إلى المقبرة. أنْ تُعايشَه، أن تتأمل شطحاته، أن تتوغل في غضبه وحِلمه وأناته، أن تتوزَّع في "أنواته" الروائية - المرئية واللامرئية - المتعددة. كُل ذلك، تحقّق لأبي مازن، في مشواره الطويل مع أبي فهد. وها هو يُقدّم عُصارة تلك السنوات بين دفتي كتابٍ يأتي كباقة محبة وارفة يسندها على رخام قبر إسماعيل. بين (البقعة الداكنة) و(صندوق أسود آخر) جسر لم يقطعه إسماعيل وحيدا. من بين الذين عبروا معه الجسر، يطل صديقه الأوفى الأستاذ محمد جواد موثِّقا حكاية أديب ملأ الساحة الأدبية بعاطفته المتدفقة، شعرا، ورواية، ومسرحا لجمهور اجتهد في إعداده وتسليحه بأدوات المعرفة والجمال، لعرض لم يكتمل بعد. - 3 -بين "السبيليّات"* و"القاسمْ"*:قمرٌ بريءٌ - في جدائلِ طفلةٍ - نائمْبرحيَّةٌ، ويدٌ تُلوِّحُ للبساتينِ الخجولةِ، والقُرىجُمَلٌ يَبيسَاتٌ تحاولُ أنْ تقولْشيئًا، تُمزِّقُ فيه تاريخَ الذبولْتَهَبُ الضّفافَ قيامتَينِ: هنا دَمٌ، ودَمٌ هنا.ولأُمِّ قاسم نجمةٌ في الدربِ واضحةٌ ستُؤوي - في غدٍ آتٍ - طيورَ الشطِّوهيَ تُعَانقُ المركبْيا صاحبي كوكبْ:- ماذا بوسعكَ أنْ تُغنِّيَ والفضاءُ مُغلَّفٌ بالفقدِ ؟واليورانيوم: اللغةُ الجديدةُ!دَوزنِ الشجنَ المباغتَ / وافتحِ الشبَّاكَغَنِّ لكُلِّ أهل الأرضِ...في الليلِ العراقيِّ الطويلِ: "نْحبْكُم"/ زِدْنَا، وشُدَّ على الصَّبَا أوتارَ عودِكَ. أنطقِ النغمَ الشجيَّ مَعَ "الطيور الطايرة"...وإذا تشابهتِ المصائرُ، طِرْ بِنا...والوعدُ: إسماعيل.• السبيليات: مسقط رأس إسماعيل فهد إسماعيل.• القاسم: مسقط رأس محمد جواد عبد الجاسم.
توابل - ثقافات
ثلاثة عقود وعامان
24-11-2019