نحو تعليم ديني متصالح مع العالم (14)
الموقعون عن الله تعالى يرى التعليم الديني، أن علماء الدين الإسلامي الذين يجتهدون في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية، من أهل الفتيا والقضاء الشرعي، هم في الحقيقة، في إصدارهم الأحكام الشرعية والفتاوى، يبلغون عن الله تعالى، ويوقعون عنه، ولهذا ألف الإمام ابن قيم الجوزية كتابه الشهير "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، في أربعة مجلدات، بهدف إعلام العلماء الذين وصفهم بالموقعين عن الله، بالمسائل الأصولية، والقضايا الفرعية المتعلقة بها، وأسرار الشريعة، وأصول مذهب الإمام أحمد، وشروط الفتيا، وأصول القضاء، وأول الموقعين عن الله تعالى، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم الصحابة، ثم التابعون، ثم من فقهاء الأمصار في المشرق والمغرب.دعونا نتساءل: هل العلماء والفقهاء والقضاة مبلغون عن الله تعالى؟
نحن نعلم أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، هو المبلغ عن الله تعالى، بنص الآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ"، وحدد المولى جل وعلا، مهمة الرسول، عليه الصلاة والسلام، في هذه المهمة الجليلة، بقوله تعالى "فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ"، أما العلماء والفقهاء والقضاة فإنما يجتهدون في استنباط النصوص، ويصدرون الأحكام في إطار الحلال والحرام، وما بينهما من مندوب ومكروه ومباح، لكن هذه العملية الاجتهادية، مجرد فهم إنساني للنص الديني، محكوم ببيئة مجتمعية، وظرف زماني، قابل للصواب والخطأ، ولذلك يختلف من فَقِيه إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن، فكيف يكون تبليغاً عن الله تعالى، وتوقيعاً عنه؟!لا نجد نصاً شرعياً أو سنداً معتبراً لهذا القول، لا من القرآن ولا من السنّة النبوية، بل نجد في المرويات الحديثية المعتمدة، ما يناقضها تماماً، منها "حديث الصحابي الجليل، بريدة بن الحصيب الأسلمي"، فقد جاء فيه "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا بعث أميراً على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً"، وقال "وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري: أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟"، هذا الحديث، نص قاطع بين حكم الله تعالى، واجتهاد البشر، ولو كانوا علماء أهل اجتهاد، ولو كانوا صحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإنهم لا يوقعون عن الله تعالى، فهذا فارق مهم بين عمل العالم في الإسلام، وعمل الكهنوت الديني، فلا قدسية ولا عصمة لقول عالم، أو فتوى فَقِيه، أو قضاء قاض في الإسلام، وإنما لهم مكانتهم العلمية العالية، واحترامهم وتبجيلهم، فلا يجوز لأحد أن ينسب الحكم إلى الله تعالى، ويصرح بالتحريم والتحليل إلا مع وجود النصوص القاطعة، وقد حذر القرآن الكريم من ذلك، بقوله تعالى "وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، وأيضاً "وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ". أخيراً: لقد أحسنت الدكتورة سهيلة زين العابدين حمّاد، الكاتبة والباحثة السعودية، في مقالتها "هل الفتوى توقيع عن الله عز وجل؟"، المنشورة في حلقتين، صحيفة المدينة نوفمبر وأكتوبر 2018، في مناقشتها لكتاب الإمام ابن القيم، ورفضها لكون العلماء موقعين عن الله تعالى، وكما تقول: إذا كان الله جل شأنه، لم يفوض أنبياءه ورسله المعصومين من الخطأ للتوقيع عنه، فكيف يفوض الإمام ابن القيم البشر بذلك؟ وهي محقة في قولها: لو اعتبرنا الفتوى توقيعاً عن الله، فهي تكون ملزمة وليست معلمة، مع أنها معلمة، وإذا كان الإنسان لا يحق له التوقيع عن أخيه الإنسان، إلا بتوكيل منه، فهل الله تعالى، وكل المفتين بالتوقيع عنه؟! كما أصابت بقولها: إذا كانت الفتوى توقيعاً عن الله، فهذا يعني أن تنسب للخالق كل الفتاوى الخاطئة!* كاتب قطري