لم يعد خافياً للمتتبع لأحوال الاستثمارات في العالم ذلك التغيير الكبير في طبيعة اتجاه الأموال نحو خيارات وقطاعات لم تكن مألوفة سابقا، حتى باتت معها الاستثمارات الحديثة نسبيا في قطاعات مثل التكنولوجيا والنقل والبيانات والتجارة الرقمية تقليدية بعض الشيء، مقارنة بالاتجاهات الحديثة جدا التي تتدفق أخبارها يوميا في وسائل الإعلام العالمية، فيما بات يُطلق عليه اصطلاحا "الاستثمار الجريء"، فضلا عن بروز مفاهيم بيئية جديدة كالتغيّرات المناخية وحمائية كالحرب التجارية في العالم تؤثر في أوضاع كل ما اعتادته الاقتصادات التقليدية، خصوصا دول الخليج العربية النفطية التي يبدو أنها غائبة تماما عن مشاهد هذه التحولات.فعالم الاستثمار الذي استوعب خلال السنوات القليلة الماضية ثورة تكنولوجية ورقمية وتسويقية ضخمة تمثّلت في تحوّل أوضاع مؤسسات تقليدية الى أنشطة تختصر كثيرا من الوقت والجهد والعمالة، لدرجة بات معها البريد الإلكتروني يغني عن أكبر شركات البريد وتطبيق مثل "iCloud" يماثل في سعته طوابق من أوراق الأرشيف وموقع مثل أمازون أو شركة علي بابا الصينية توازيان في حجمهما أسواق ومتاجر ضخمة يقف اليوم أمام واقع جديد على مستوى الاستثمارات غير المألوفة التي تعكس جانبا من رؤوس الأموال المغامرة في قطاعات أقل ما يمكن وصفها بأنها تستحق الدراسة والبحث.
رؤوس أموال
وبنظرة عامة على ما أعلنه رجال أعمال وشركات وحكومات متعددة خلال هذا العام، نجد أن هناك توجها لافتا لرؤوس أموال ضخمة نحو استثمارات غير مألوفة وتحديات غير تقليدية معظمها يؤثر دون شك على دول الخليج النفطية.فالاستثمارات الجريئة لا تقتصر على تنامي الاستثمار في السياحة الفضائية كشركات "فيرجين جالاتيك" و"سبيس إكس"، و"بلو أوريجن"، أو التوسع في إنتاج الريبورتات التي تتصدرها حاليا شركة "ألفابت" المالكة لـ "غوغل" أو "بطاقة أبل" الائتمانية، ولا حتى في النمو القوي الذي حققته شركة تيسلا للسيارات الكهربائية هذا العام، والذي من المنتظر أن تسجل فيه مبيعات قياسية بـ 360 ألف سيارة وبنمو 18 في المئة عن العام الماضي، بل في انعكاس هذه الاستثمارات على سياسات الدول وتوجهات الشركات.استثمارات خضراء
كان لافتا إعلان ألمانيا استهداف بلوغ مليون محطة لشحن السيارات الكهربائية بحلول عام 2030 كبديل لمحطات الوقود التقليدي، وسعي الشركة الفنلندية "سوليتير باور سيستيم" لإنتاج الهيدروكربون من الطاقة المتجددة، ناهيك بالتوجه اللافت نحو الاستثمار في إصدار السندات الخضراء - وهي أوراق مالية تجمع رأس المال للمشروعات المفيدة للبيئة - حتى ناهزت 200 مليار دولار منذ بداية العام، مع توقّع مضاعفتها خلال العام المقبل، بل إن شركة تجارية مثل أمازون باتت تشدد على التزامها بخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وأن منشآتها ستوفر الطاقة النظيفة لمراكز بيانات الخدمات السحابية الخاصة بشركة التجارة الإلكترونية، وعزمها إنشاء مزرعة توربينات رياح بسعة 50 ميغا واط ساعة في أسكتلندا لتزويد 46 ألف منزل في المملكة المتحدة باحتياجاتها من الكهرباء.هذا الاتجاه نحو السندات الخضراء والاستثمارات النظيفة يتسق مع الاتجاه العالمي للحد من التغيرات المناخية التي تعدّ حاليا أحد الضغوط التي تواجه اكتتاب عملاق النفط السعودي شركة "أرامكو"، في حين يواجه عملاق آخر في عالم النفط هي شركة إكسون موبيل دعوى قضائية في الولايات المتحدة، بسبب مزاعم إخفاء معرفتها المبكرة بتغيّر المناخ عن العامة وتضليل المستثمرين بشأن الأثر المالي المستقبلي للاحتباس الحراري.بيانات صينية
ولعل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تدخل لشغل حيّز مهم في صياغة القواعد الاقتصادية في دول العالم، فما أعلنته بكين قبل أسابيع يشير الى جانب من الأثر الفعلي لحرب التجارة، تمثّل في هبوط الأرباح الصناعية بالصين 5.3% منذ بداية تصاعد تأثير حرب التجارة مع استمرار انخفاض أسعار المنتجين، مما يكشف تعرّض القطاع الصناعي الضخم في الصين لضغوط قوية وتباطؤ في الأرباح، وحتى المؤشر الرئيسي لربحية الشركات الصينية، وهو ما يُعرف بـ "تسليم باب المصنع" انخفض بأكبر وتيرة منذ ثلاث سنوات، وتراجعت أرباح الشركات المملوكة للدولة 9.6 بالمئة في الأشهر التسعة من العام.هذه كلها أرقام تشير بقوة الى أن آثار الحرب التجارية المباشرة على الاقتصاد الصيني ستكون لها آثار غير مباشرة على دول الخليج النفطية التي تعتمد على سوق آسيا بنسبة 90 في المئة من صادراتها النفطية، التي تمثّل نحو 80 في المئة على الأقل من إيراداتها.وبالنسبة لدول الخليج، النفطية منها تحديدا، فإن المسألة لا ترتبط بالدعوة الى التوجه نحو الاستثمارات الجريئة بقدر ما تستدعي الانتباه الى التحولات الاقتصادية في العالم، وإلى التعامل مع السياسات الجديدة البيئية والحمائية تحديدا بافتراض أسوأ السيناريوهات، لاسيما أن معظمها مرتبط بسلعة النفط الوحيدة التي نستطيع أن نقدمها لعالم قادر بسرعة مذهلة من خلال قدراته البحثية والتكنولوجية على تجاوز ما نتميز به إن لم يكن اليوم... فبالتأكيد غداً.