كثيرا ما تتسق مطالبات مجتمع الأعمال مع خطاب الدولة الرسمي بضرورة الاعتماد على القطاع الخاص في حلحلة الاختلالات الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد الكويتي، غير أن هذه الفرضية تحتاج الى قدر من التمحيص والفحص، لمعرفة إن كان القطاع الخاص مدخلا للحل أو جزءا من المشكلة.ففرضية أن نجاح "الخاص" سيعني إحداث تغييرات إيجابية على مستوى الاقتصاد هي مقولة صحيحة إلى حد بعيد في معظم دول العالم، لكنها في الكويت تحتاج أولا الى اعتراف بواقع حال معيّن، وثانيا قراءة متأنية من خلال الأرقام والبيانات.
فواقع الحال لا يمكن أن يتجاوز مسألة أن السواد الأعظم من القطاع الخاص إن لم يكن جميعه يعتمد في أرباحه وأعماله وأنشطته على المعاملات والدعم الحكومي الصِّرف، من خلال المناقصات العامة، والتي لا تزال طبيعتها الاحتكارية قائمة، رغم تعديل قانونها عام 2016، أو عبر الاستفادة من المزايا الاستثنائية التي توفرها الإيجارات الزهيدة من الاستفادة من أراضي أملاك الدولة، وصولا الى الإعفاءات الضريبية وحتى خدمات الكهرباء والماء المدعومة، أما القراءة المتأنية لأرقام القطاع الخاص وبياناته، فتشير الى أن قدرته على أن يكون لاعبا أساسيا في عملية الإصلاح الاقتصادي محدودة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمعالجة اختلالات الاقتصاد الهيكلية.
فرص عمل «الخاص»
بالنظر إلى بيانات الإدارة المركزية للإحصاء للفترة حتى نهاية يونيو 2019 عن سوق العمل، الذي يعد أحد أهم اختلالات الاقتصاد الكويتي، نجد أن القطاع الخاص يوفر 18.8 في المئة من إجمالي فرص العمل للكويتيين، أي 73 ألف مواطن - دون احتساب العسكريين الذين تشير تقديرات الى أن احتسابهم سيهبط بنسبة "الخاص" الى 16.5 في المئة، وفي كلا الحالتين هي نسبة قليلة مقارنة بما يطالب به "الخاص" من توسع في عمليات الخصخصة مثلا، أو رفع للإنفاق الاستثماري في الميزانية العامة، أو رفع حصص الإنفاق على البنية التحتية، غير أن المعضلة الحقيقية تتمثل في أن هذا القطاع يمثّل - حسب فرضيات خطط الدولة الرسمية - البيئة التي ستستوعب الحجم الأكبر من القادمين لسوق العمل خلال 10 سنوات قادمة، والذين يقدر عددهم بأكثر من 400 ألف مواطن، وسط وضع مالي حكومي غير مأمون حاليا على صعيد الميزانية يستهلك نحو 53 في المئة من إجمالي المصروفات لمصلحة بند الرواتب، الذي قد لا يلبيه في عام 2030 سعر برميل نفط افتراضي يصل الى 270 دولارا، حسب الدراسات الحكومية.إيرادات قليلة للدولة
لا تقتصر محدودية القطاع الخاص على ما يتعلق بسوق العمل، إنما يمتد الى نواحٍ أخرى تتعلق أيضا باختلالات الاقتصاد كقلّة إيرادات تمويله للميزانية، خصوصا في جانب الإيرادات غير النفطية، إذ لا يزيد ما تدفعه الشركات من ضرائب شاملة الزكاة وضريبتي التقدم العلمي والعمالة الوطنية على 300 مليون دينار، أي 17 في المئة من إجمالي الإيرادات غير النفطية الضئيلة أصلا في الميزانية، مقابل الإيرادات غير النفطية (11 في المئة حسب التقديرات لسنة 2019 - 2020) و1.3 في المئة من إجمالي الميزانية ككل، وهنا يمكن القول إن القطاع الخاص الكويتي يعد من ضمن الأدنى عالميا في المساهمة بتمويل الميزانية العامة، لا سيما أنه يقارن نفسه مع قطاعات خاصة نظيرة بتمويل ميزانيات دولها بمعظم الإيرادات.ريعية المشاريع
ولإلقاء جانب من الضوء على "ريعية" معظم مكونات القطاع الخاص في الكويت، يمكن النظر الى عمليات تمويل المصارف لمشاريع الشركات، لمعرفة كم منها يتعامل مع الدولة كـ "خاص مع عام"، وكم منها يتعامل مع القطاع كـ "خاص مع خاص"، لنجد أن نحو 95 في المئة من تعاملات مشاريع القطاع الخاص هي في الأصل مشاريع أو مناقصات حكومية، وهنا يتبين جانب من الخلل في القطاع، ويفسر من زاوية أخرى المطالبات برفع الدولة نسبة الإنفاق الاستثماري في الميزانية، رغم عدم وجود دليل أو دراسة عن مدى وجود منفعة للاقتصاد على صعيد الإيرادات غير النفطية أو سوق العمل من رفع الإنفاق الاستثماري.رفع اختلال السكان
وحتى اختلال التركيبة السكانية، نجد القطاع الخاص يتحمل فيه جزءا لافتا منه، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود تجارة الإقامات من الشركات الوهمية، إذ تفيد أرقام الإدارة المركزية للإحصاء الى أن إجمالي العاملين من غير الكويتيين (مع استبعاد الخدم ومَن في حكمهم 724 ألفا) بلغ 1.65 مليون عامل يشكلون 93 في المئة من قوة عمل القطاع الخاص، بما يرفع حجمهم الى 70 من إجمالي السكان، وبالتالي فإننا أمام وضع سكاني يمثّل مشكلة أكثر من أنه يمثّل الحل أو المدخل للإصلاح الحقيقي.«الحقيقي» محارب
ومن المهم القول إن المستثمر الحقيقي والشباب المبادرين الذين يريدون القيام بعمل إنتاجي محاربون من الدولة، فأراضي أملاك الدولة المخصصة مثلاً للمصانع أو التخزين محتكرة من آخرين يحققون ثرواتهم من سلسلة لا تنتهي من عقود "الإيجار بالباطن" رغم عدم قيامهم بالاستثمار المحدد لها، وهذه السلسلة ترفع الأسعار على من يريد فعلاً أن يقوم باستثمار حقيقي لدرجة أن بعضاً منها تشكل قيمة الأرض فيها نحو نصف أو ثلث رأسمال المشروع، وهذا نموذج سيئ وفريد يكاد يكون محصوراً في الكويت، ويحرم الشباب من فرص المبادرة والاستثمار، وبالتالي يجعل المبادرة في العمل في مشروع بالقطاع الخاص مغامرة، ويحول الحافز الذي حددته الدولة من أراضيها الصناعية والتخزينية والزراعية والتجارية عبئاً على المستثمر، مما يكرس الوضع الحالي رغم سوئه ويقلل من أي احتمالية لتغييره.دعوة للتطوير لا الحرب
هذه البيانات والأرقام والفرضيات لا تشكل دعوة لمحاربة القطاع الخاص أو الاعتماد على "العام"، إنما هي قراءة في واقع قطاع يراهن عليه أغلب من لديه سلطة أو نفوذ القرار، رغم وجود اختلالات فيه لا تقل عن اختلالات القطاع العام، وهي أيضا مسعى حتمي لتطوير هذا القطاع ليكون "حقيقيا" وإبداعيا غير معتمد على الدولة، بل يعتمد عليه المجتمع، ناهيك بأن هذه المراجعة لا تخلو من وضع المسؤولية على الإدارة الحكومية العامة في تحديد مسؤولياتها التي يجب أن تتعدى منح المناقصات والمشاريع المليارية للشركات، الى أن تكون "صانع سوق" لبيئة استثمار وتجارة وأعمال من شأنها أن توفر للدولة كل ما تحتاج إليه الدول الطبيعية من قطاعها الخاص من إيرادات وفرص عمل وإعادة تنظيم السكان، وتقديم أفكار ومنتجات ناجحة يقابلها دور للدولة في حماية المنافسة ومحاربة الاحتكار وتسهيل الأعمال وخلق الفرص.ومن دون هذه الصيغة سيبقى الاقتصاد رهينا بين الفشل الحكومي في القطاع العام، أو خوف المجتمع من "الخاص" الذي تبدو بعض نماذجه جيدة، ومعظمها غير مشجّع.