بدأت مساء الأربعاء الماضي أوّل عروض مسرحية " نيو جبلة" على مسرح الدراما بمركز الشيخ جابر الأحمد، ضمن فعاليات الموسم الثقافي المقرر أن تستمر حتى 14 الجاري، المسرحية من تأليف الكاتب سعود السنعوسي وإخراج جوليان ويبر، ويجسّد شخصياتها نخبة من نجوم المسرح، وعلى رأسهم الفنانان سعد الفرج وعبدالرحمن العقل، إلى جانب زهرة الخرجي وعبير أحمد وعبدالله الخضر، مع حبيب جمعة وزينب أحمد وولاء الصراف ونسرين سروري ويونس الشرهان، وتصميم المشاهد 59 Productions، والأزياء فوتيني ديموا والرقصات أحمد خميس، وكلمات الأغانيات ساهر - فيّ الجحيل.يكمن السر في نجاح أي عمل مسرحي من تكامل عناصره المختلفة، بدءا من النص الذي يحمل فكرة جديدة، ومرورا باختيار ممثلين قادرين على تجسيد الشخصيات، وبسينوغرافيا تخدم فكرة العمل، وأخيرا مخرج يحمل رؤية ولديه القدرة على إدارة الخشبة والاشتغال على جميع عناصره بالتوازي، بحيث لا يغلب أحدها على الآخر.
وأزعم أن "نيو جبلة" يستحق أن يُطلق عليه عمل مسرحي متكامل الأركان، فكر جديد وجرأة في الطرح وفرجة مسرحية تضاهي عروض "برودواي" من حيث الفكرة التي صاغها الكاتب السنعوسي بذكاء، واختيار نجوم من مختلف الأجيال، ولديهم قبول كبير عند الجمهور، وإسناد مهمة الإخراج للبريطاني جوليان ويبر، وهنا كان السؤال الذي ظل عالقا في الأذهان: كيف سيتعامل جوليان مع نص كويتي وممثلين يتحدثون اللهجة العامية عن قضايا تلامس الشارع ومشكلات متجذرة في المجتمع؟
رفع الستار
سرعان ما جاءت الإجابات تباعا منذ رفع ستار مسرح الدراما في مركز جابر عن العرض الأول عند الساعة الثامنة يوم الأربعاء الماضي، كنا أمام سينوغرافيا مبهرة، ديكورات ضخمة تم تصميمها لتخدم فكرة العمل الذي تدور أحداثه في كوكب المريخ، وهنا تم توظيف إمكانات المركز بكامل طاقتها، بداية من الديكورات المتحركة، ومرورا بالإضاءات وما تحمل من دلالات، وكذلك الشاشات التي عرضت مشاهد تمثيلية تخدم السياق الدرامي للأحداث، بينما اعتمد المخرج كذلك الإيقاع السريع والجمل الحوارية القصيرة، والانتقال من مشهد لآخر على وقع استعراض صغير لمجموعة التعبير الحركي التي كانت همزة الوصل بين المشاهد المختلفة.كذلك أجاد ويبر توظيف موهبة ولاء الصراف التي ظهرت في مشاهد معدودة بشخصية هالة، لكنها لعبت دورا مهما بصوتها في الربط بين المشاهد، وهنا يجب أن نتوقف عند فكرة الغناء لايف على المسرح، وقلّما نشاهد هذا التوجه في الأعمال المسرحية الجماهيرية التي يعتمد أغلبها على الأغنيات المسجلة، وهي خطوة تُحسب للمخرج ويبر، الذي قدّم أيضا لوحتين إحداهما من روح التراث الهندي وأخرى من الموروث العربي.قالب الفانتازيا
على مستوى الفكرة، انطلق السنعوسي في صياغته قصته من قالب الفانتازيا، ليسقط على المجتمع مجموعة من القضايا الآنية بجرأة، وبشكل مباشر، دون الحاجة إلى استخدام الرمزية مثل نبذ العنصرية والدعوة إلى التعايش والوقوف في وجه الطبقية والعصبية للأصل، وذلك من خلال شخصية "طمام المرحوم"، التي جسّدها الفنان القدير سعد الفرج، رجل يفخر بأصله وأنه من أصحاب الدماء الزرقاء، ويتعامل بفوقية مع جيرانه في المريخ، رغم أن مستواهم الاجتماعي لا يقل عنه في شيء، وهما "هامور بن مجنز"، الذي جسّده الفنان عبدالرحمن العقل وزوجته "بيزة الخرداوي"، ولعبت دورها الفنانة زهرة الخرجي، ورغم تعصّب "طمام" لأفكاره البالية، فإنه ضعيف الشخصية أمام زوجته "تيتي"، التي جسدت دورها ببراعة الفنانة عبير أحمد، ويتجلى موقف طمام العنصري في رفضه زواج ابنته "سلوى"، وأجادت في أداء شخصيتها الفنانة زينب أحمد، من "جاسم"، الذي لعب دوره حبيب جمعة، وهو ابن "هامور".ومن هنا نتابع تفاصيل الصراع بين المعتقدات القديمة التي تقف حائلا دون زواج سلوى وجاسم، وبين فكر الشباب الرافض للظلم، والذي تعبّر عنه سلوى، تلك الفتاة رغم رفضها أن تخالف إرادة والدها، فإنها تأبي أن تخضع لنظرته الضيقة، فتحمل شعلة التنوير، وتقول كلمة "لا"، التي كانت محرّمة في كوكب المريخ، لتفتح الباب أمام رفض الظلم.ولأن "طمام" يدرك جيدا أنه من الصعب أن يقف وحيدا، فقد أراد الاستعانة بشخص يُلبس آراءه وقرارته ثوب الدين، فلم يجد أفضل من "الملاج بن صملة"، الذي لعب دوره بمهارة فائقة الفنان عبدالله الخضر، ذلك الرجل الذي يتكشف لنا فيما بعد أنه يتخذ من الدين وسيلة لبلوغ غايته وتحقيق منافع عدة باللعب على جميع الأطراف، حتى تتكشف حقيقته في النهاية.مباشرة ورمزية
ورغم المباشرة في طرح بعض القضايا والتحزبات الواضحة على المسرح، والتي تجلت في الصراع الدرامي بين طمام وتيتي من جهة، وهامور وبيزة من جهة أخرى وبن صملة الذي وقف على مسافة واحدة من الجانبين، تحركه مصالحه الشخصية لأحدهما، فإن الرمزية في بعض الأدوار كانت مدهشة، لاسيما في سلوى التي كانت محورا للأحداث، هي المرأة التي حملت لواء المعارضة للمعتقدات الخاطئة، والتي نادت بالتعايش بين مختلف أطياف المجتمع، إعلاء لمبدأ المساواة متمثلا في تحريضها لعمال المنزل "ميري" و"بابو" للخروج إلى الحياة وإقدامها على تجاوز السور الذي شيّده والدها ليعزل مجتمع "نيو جبلة" عن محيطه الخارجي، مستغلا خوف النفس البشرية من المغامرة، لتعبر سلوى وتكتشف أن كل ما روّج له والدها من مخاوف لا أساس له من الصحة، أيضا تحفيزها لحبيبها جاسم ليعبر معها هذا الحاجز الذي يرمز للخوف، ويرى الحياة على حقيقتها، فكانت سلوى هي أول من بادر بكلمة لا، وأول من تجرأ على عبور السور، في دلالة واضحة لتقدير دور المرأة في المجتمع، وتأكيد أن صلاح الأجيال يبدأ من المنزل وتحديدا من مدرسة الأم.لا شك في أن وجود الفنان القدير سعد الفرج كان بمنزلة رمانة الميزان في هذا العمل، الفرج بما يحمل من تاريخ وحضور وقدرة على التنقل من حالة إلى أخرى، والتعامل مع الفنانين الشباب أعطى ثقلا للعمل، بالتعاون مع فنان تميّز بطلة مختلفة، وهو عبدالرحمن العقل الذي حافظ على أداء متزن وتعامل بحرفية عالية مع شخصية هامور، وشكّل دويتو مميزا مع زهرة الخرجي، بينما قدّمت عبير أحمد نفسها بصورة مختلفة عما قبل، في حين أكدت زينب أحمد أنها موهبة مبشرة، وينتظرها مستقبل كبير، أما الفنان عبدالله الخضر فلا خلاف على أنه كوميدان يملك أدواته وحالة خاصة في المشهد الفني بالكويت، الخضر يقدم أداء لا يشبه أحدا، وهذا ما يميزه.هذا ما فعله سعود
يقول مخرج المسرحية جوليان ويبر في كلمته "إن كلمة المخرج أمر شائك، أنا ممتن جداً للترحيب اللطيف والكرم اللذين أبداهما الجميع هنا في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، كما أتوجه بالشكر الجزيل إلى طاقم العمل الرائع على تحمّلهم وصبرهم، لكنني في الوقت نفسه لا أعرف كيف أوظف الكلمات لأصف ما سترونه على خشبة المسرح".ويضيف: "تتمثل مهمة المخرج من وجهة نظري في أن يوظف كل قدراته لخدمة رؤية الكاتب المسرحي وإظهارها، وفي هذه الحالة كان من دواعي سروري أن أعمل مع المؤلف، هذا الرجل اللطيف اللبق ذي التساؤلات الفذة.إن علاقة المسرح بالسلطة كانت دائما علاقة سيئة لا مجال فيها للحب، وقد حذرني والدي المتدين من الفاسدين الذين كانوا يملأون المسارح في بريطانيا في سبعينيات القرن الماضي، ويعيشون خارج المألوف والمقبول كما وصفهم لي حرفيا، وقد استغرق الأمر مني بعض الوقت لأكتشف أن هؤلاء الناس كانوا يكدون كثيرا مقابل القليل من المال فقط، ليتمكنوا من رؤية سقوط وتهدّم تصوراته تلك.وعندما سافرت للدراسة علمت أن رأيه كان شائعا وممتدا منذ ألف عام على الأقل أو ربما أبعد، لقد أمضيت وقتا طويلا في التساؤل: لماذا تشكّل المحاكاة والتمثيل تهديدا مخيفا؟ إن ما يخيفني أكثر هو الشق المتسع بين الإيمان والحقيقة.ومن المؤكد أن المسرح لا يملك جميع الإجابات، لكن أفضل الأعمال المسرحية هو ذلك الذي يطرح الأسئلة الصحيحة، أسئلة مثل "ما الذي يجلعنا ما نحن عليه؟ وكيف يمكننا أن نكون أفضل؟ وما الذي سيحدث لو؟ ولا ينفي هذا ما يحمله المسرح الجيد من مفاجآت وضحك ومتعة.وهذا في اعتقادي ما فعله سعود".