في الشهر الماضي، اشتكى إيمانويل ماكرون من حالة "الموت الدماغي" لحلف الناتو في مقابلة مع مجلة "إيكونوميست"، وسرعان ما انتشر تصريحه على نطاق واسع، فهو ليس أول زعيم غربي يُعَلّق علناً على مشاكل الناتو، لكن أثبت تشكيكه بالتزام الحلف بالدفاع الجماعي، وهو جزء من ركائز المنظمة، وجود مشاكل جدّية، فسارع مسؤولون غربيون إلى استنكار موقف ماكرون، لكن أكد النقاش اللاحق أن الناتو يواجه أصعب التحديات منذ نشوئه في عام 1949.برأي بعض المراقبين، يبدو اضطراب الناتو الداخلي هدية خطيرة لروسيا التي تجمعها علاقة متوترة مع الحلف منذ عام 2014، فلا عجب إذاً في أن تشيد المتحدثة باسم وزارة الشؤون الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، بتصريح ماكرون وتعتبر كلامه "ذهبياً"، لكن تتجاهل الإدانة الغربية لتعليق ماكرون وسعادة روسيا به حدثاً مقلقاً آخر يلوح في الأفق.
لأسباب جغرافية محضة، أصبحت أوروبا الشرقية الواقعة بين روسيا والناتو محور هذه المعضلة الأمنية التي أدت إلى توسّع العمليات العسكرية الخطيرة، إذ تشير التدريبات الروسية في بحر البلطيق، بالقرب من قاعدة "كارلسكرونا" البحرية في السويد مثلاً، إلى خطة موسكو بتوسيع نفوذها في دول الاتحاد السوفياتي السابق وما وراءها.سيكون تشكيك ماكرون العلني بالتزام الناتو بالدفاع الجماعي كفيلاً بترسيخ الشكوك المتزايدة على طول الجناح الشرقي في الحلف. قد تظن البلدان التي تدخل في هذه الخانة أنها مضطرة لبذل جهود إضافية للدفاع عن نفسها، لذا قد تتجاوز الناتو وتبحث عن الدعم في واشنطن. سبق أن تحركت بولندا في هذا الاتجاه عبر إنشاء "قلعة ترامب" التي تضمن وجوداً عسكرياً أميركياً دائماً داخل حدودها. ويبدو أن البلدان الأخرى باتت مستعدة للسير على خطاها.في غضون ذلك، نشر الناتو والولايات المتحدة، في منتصف عام 2018، نحو 4500 جندي في ثلاث من دول البلطيق وبولندا، فضلاً عن آلاف القوات المدرّعة في أوروبا الشرقية لتجنب أي اعتداء روسي، ستزيد هذه الخطوة المخاطر المطروحة على روسيا لأنها ستعتبر أي تعزيزات عسكرية شكلاً من العدائية ضدها.يسهل أن نتوقع التداعيات المحتملة على المدى القصير والمتوسط، منها زيادة التوتر داخل الناتو وإطلاق ردود مضادة حتمية من الجانب الروسي، سيكون هذا الوضع مبرراً لتوسيع الوجود الغربي ميدانياً. ستشعر جميع البلدان حينها بالأمان، لكن تتعلق مخاوف أخرى بتوسّع التحركات العدائية التي يطلقها الحلفاء أكثر من أي وقت مضى غداة تعزيز التزام الناتو بحمايتهم، فعلى المدى الطويل، قد تُعرّض هذه المعضلة الأمنية المنطقة وأوروبا والمحيط الأطلسي للخطر.سيكون كبح تداعيات المعضلة الأمنية في أوروبا الشرقية صعباً، ويتطلب هذا الهدف اجتماع البلدان الغربية مع روسيا لعقد صفقة كبرى في مسائل متعددة تبدو غير قابلة للحل راهناً، على غرار العقوبات وإطار الحد من انتشار الأسلحة وأوكرانيا. يقضي حل واقعي بإيجاد طرق فاعلة لجعل التحولات الحاصلة في أمن أوروبا الشرقية أكثر توقعاً، فتؤدي بيلاروسيا دوراً محورياً في هذا المجال.لطالما اعتُبرت بيلاروسيا في الغرب دولة دكتاتورية من أوروبا، على اعتبار أنها جزء غير مباشر من الأجندة الجيوسياسية الروسية، صحيح أن السياسة المحلية في هذا البلد مضطربة، لكن تثبت سياساته الخارجية والأمنية الأخيرة أن بيلاروسيا قادرة على المشاركة في تجديد استقرار أوروبا الشرقية.غداة غزو روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 والقتال في "دونباس"، اتخذت بيلاروسيا موقفاً حيادياً واضحاً بين روسيا والغرب. حتى أنها شهدت على محادثات السلام التي أسفرت عن عقد اتفاقيتَي "مينسك" في العامَين 2014 و2015، كذلك، تجتمع هناك مجموعة الاتصال الثلاثية التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (تشمل ممثلين عن المنظمة وروسيا وأوكرانيا) في الأسبوع الثاني من كل شهر، وخلال منتدى "مينسك" للحوار حول أمن المنطقة في أكتوبر، تعهد رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، بتحويل البلد إلى "قصة نجاح للأمن الأوروبي" وطلب المساعدة من القوى العالمية والإقليمية المؤثرة.* «فيتالي شكلياروف»
مقالات
ما دور بيلاروسيا في حل مشاكل «الناتو» مع روسيا؟
08-12-2019