كلفة السلام وكلفة القطيعة
من أطرف ما قرأت في كتب السياسة والعلاقات الدولية تلك المقدمة لكتاب "مبادئ العلاقات الدولية" للباحثة كارين أريغوين، وذلك لأنها لفتت نظرنا كقراء إلى تمرين بسيط نقوم به يوميا للاطلاع على دور العلاقات الدولية في حياتنا اليومية، ألا وهو فتح خزانة الملابس واستيعاب هذا الكم الهائل من الأقمشة التي تصنع وتخاط في دول بشتى أنحاء العالم، وفي "السوبر ماركت" أو الجمعيات التعاونية أيضا، ندرك هذا الكم من الدول التي نستورد منها احتياجاتنا اليومية، فنقف يوميا أمام التشابك في العلاقات التجارية الاقتصادية والدولية، حتى أصبحنا بعاداتنا الاستهلاكية جزءاً لا يتجزأ من هذا العالم؛ لذا أصبح موضوع العلاقات الدولية حاضرا حتى في حياتنا اليومية.ورغم المناطق الجعرافية الواسعة التي يضمها ملعب العلاقات الدولية فإن اللاعب في العلاقات الدولية قد تغير، فتاريخيا كانت الدولة هي اللاعب، أما اليوم فانضمت المنظمات غير الحكومية والأفراد والإعلام الرقمي إلى الأجندة المحلية والعالمية، فكيف تأثرنا كدول وشعوب نامية بذلك التغيير؟ لا شك أن العلاقات الدولية في منطقتنا بحاجة إلى متخصصين لتبني التحليل الصحيح للمسار الدولي والمساهمة في رسم السيناريوهات بشكل علمي ومهني سليم.
وفي السياق ذاته أشير اليوم إلى شخصية من أبرز محللي السياسة الدولية، تلك الشخصية وصفت بالثعلب، هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة منذ 1973 حتى 1977 ومستشار نيكسون الذي بقي واستمر في عمله حتى بعد سقوط رئيسه في فضيحة ووترغيت، ويعتبر كيسنجر مهندساً لسياسة الانفراج في فترة الحرب الباردة والخروج من الأزمة والانفتاح على الصين، ورغم تهجم الصحف العربية على زياراته للشرق الأوسط فإنه اعتبر رجل الدبلوماسية المكوكية بسبب رحلاته المتكرره آنذاك لإيجاد حلول لأزمة الشرق الأوسط. كتاباته تناولت السياسة خلال الأزمة، أي أزمة الحرب الباردة، وحاول تطبيق مفاهيم جديدة في السياسة الخارجية، ومنها الواقعية الجديدة في إدارة السياسة الخارجية مسلطا الأضواء على ميزان القوى واختلاله بل التلاعب به ليبقى تحت سيطرة الدول العظمى. ويذهب كيسنجر من خلال كتاباته إلى تشبيه المشهد الدولي بالحلبة وسط جري الجميع، ولن يتحقق التوازن إلا بسلطة مركزية، وتناول أيضا أهمية استقلالية السياسة الخارجية عن الشأن الداخلي والحاجة إلى إعادة إنتاج القانون الأساسي لكونغرس فيينا أو النظر فيه.اللافت للنظر هو إشارة كيسنجر إلى "كلفة" تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي و"كلفة" القطيعة، طارحا تساؤلات عدة حول المبالغ والجهود التي استنزفت خلال القطيعة في فترة الحرب الباردة في صراع الأقطاب، ومواجهة من تختلف معه الولايات المتحدة أيديولوجيا كالاتحاد السوفياتي ومن بعده الصين التي كانت محط الأنظار، حيث طالب باستراتيجية الانفتاح على الشرق بشكل عام والصين بشكل خاص، وهي نقطة مهمة في يومنا هذا لمعرفة ما دعا إليه ثعلب السياسة بشأن كلفة القطيعة وكلفة السلام.وما سبق أخي القارئ كان لمحة عن أحد ثعالب السياسة الخارجية وسط مفاهيم جديدة للعلاقات الدولية وإعادة تقييم المواقف، بالإضافة إلى احتساب كلفة الصراع والقطيعة، واستبدالها بسيناريو السلام. وللحديث بقية.كلمة أخيرة: حارة الأمان في الطرق السريعة اليوم أصبحت حلبة سباق، فما إن تسير دورية أو سيارة إسعاف حتى تنطلق السيارات خلفها، فإلى متى؟