«أغلى موزة في العالم»
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر فني مرفق بصورة عبارة عن "موزة" تم تثبيتها على جدار بشريط لاصق على أنها عمل فني معاصر وألحق بالخبر أنها بيعت بمبلغ فاق المئة ألف دولار!!وكنت قد قرأت خبراً قبلها بأن"سمكة" من نوع خاص يعرفه أهل الخليج خاصة قد بيعت بأكثر من مئة ألف درهم، ولكن الخبر كان واضحا بأن الذي اشتراها طفل بدافع التبرع في مزاد خيري ولم يستغرب أحد هذا الخبر، ولكن ثمن الموزة وطريقة عرضها بقي محل استغراب ودهشة الكثيرين إذ لم يُعرف الغرض من ورائه! نغتنم الفرصة للحديث عما يجري في مزادات وقاعات العرض في عالم الفن التشكيلي مع أنواع الفنون الأخرى، وما جــَدَّ عليها من مسميات عديدة، وكيف يستقبلها المتلقي وخاصة في بلادنا العربية التي تتصف بالمحافظة على القيم الإنسانية والتقاليد الاجتماعية.
حتى القرن التاسع عشر كانت الفنون ملتزمة بقواعد صارمة وبشخصية كل فنان مع طلابه الذين يساعدونه حتى ظهرت آلة التصوير الفوتوغرافي "الكاميرا" التي قلبت كل المقاييس والمعايير وظهر سؤال محير عند الفنانين وهو: لماذا يبقى الفنان أياما وشهورا يرسم شخصا أو منظرا طبيعيا في الوقت الذي يمكن لآلة التصوير أن تؤدي الغرض في ثوان؟! ولم تكن الآلة هي السبب الوحيد الذي قلب الموازين وأطاح بالصورة التقليدية بل كانت الفلسفات الحديثة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى وأحدثت انقلابا حقيقيا في عالم الشعر والمسرح والقصة، وبدأت تظهر مدارس فنية مصاحبة لتلك الفلسفات في عالم الفن التشكيلي فكانت التعبيرية الحديثة والتكعيبية والدادية والسيريالية والتجريدية وكثير من المدارس التي استقرت، وأخرى أدت غرضا محددا وزالت ولم يتبق منها إلا الأثر. ليس أقل من كلمة "عبث" في وصف ما يُحدثه بعض دعاة الفن من الذين لا قـُدرة لهم على الإبداع الحقيقي، ولا يملكون المؤهلات التخيلية لصنع لوحة فنية حين لا يجدون حرجا بأن يلقوا ببعض الألوان على سطح لوحة بيضاء وبحركات عبثية أيضا يخلقون شكلا صنعته "المصادفة" لا سيطرة عليه من وجدان أو عقل يضبطه، ثم يريد هذا العابث أن يفرضه على المتلقي على أنه رؤية خاصة وفلسفة يشرحها بكلمات مبهمة يتوه فيها المتلقي ولا يدرك من معناها شيئا!هذه حالة من حالات مرضية تفشت ووصلت إلى بلادنا وتغلغلت في عالم الفن التشكيلي، وليس الشعر ولا القصة ولا الغناء ولا المسرح ولا السينما ببعيد عنها؛ مما وسع الفجوة بين الفنون وأهدر قيمها السامية دون إحساس بالمسؤولية أو الغيرة على الثقافة بشكل عام، ولا نحتاج إلى أمثلة نوجه فيها الأنظار إلى ما نشاهد عبر الفضائيات أو وسائل الإعلام من ضعف في استخدام اللغة الأم وإحلال بل "حشر" لغة غريبة بين الكلمات حتى استقرت في وجدان البعض أن هذا المزيج هو من الرقي والتطور ومجاراة العصر!وفي حين يعيش العالم طفرة التكنولوجيا فإن الفن بكل أنواعه لم ولن يسلم من اقتحام هذه التقنيات الحديثة التي عملت وستعمل على بلورة صورة أخرى للفنون باستخدامها وستخلق لنا فنا جديدا ومغايرا ستكون قدرة تحكم الإنسان فيه أقل مما هي عليه لأن اكتمال الصورة لا يتحقق بدون هذه التقنيات والتي علينا أن نعترف بأن بعضها أكثر دقة واختصارا للوقت في تنفيذها.اليقين، رغم قدراتها الهائلة، أنها بدون الإنسان "المُبدع" ستبقى آلة صماء لا حياة فيها وستؤدي غرضها دون أن تنبعث منه حياة!* كاتب فلسطيني- كندا