حكومة لبنان القادمة وضرورة التركيز على الصحة
ستكون لدى حكومة لبنان فرصة لوضع الأسس لمستقبل أكثر استقرارا وعدالة ورخاء، ولكي تنجح في ذلك ستحتاج إلى دعم شعبي قوي ومتواصل، والحق أن عملية إعادة تصور النظام الصحي من شأنها أن تقطع شوطا بعيدا نحو ضمان تنفيذه.
اجتاحت موجة ضخمة من الاحتجاجات أنحاء لبنان، كان المحرك والمفجر المباشر لها مقترحات بفرض ضرائب على البنزين والتبغ وبعض منصات التواصل الاجتماعي ومنها واتساب، لكن الأرض كانت خصبة بالفعل لحدوث اضطرابات بسبب مظاهر التفاوت الضخمة والمتنامية اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا وصحيا، وهي تفاوتات يتحتم على الحكومة القادمة- التي لم يُسمَّ رئيسها بعد- الالتزام بمعالجتها، وإذا أراد قادة لبنان الوفاء بمطالب المتظاهرين المنادية بمزيد من المساواة والعدالة الاجتماعية، فعليهم أن يبدؤوا بإصلاحات بعيدة المدى لنظام الصحة العامة.لا يخفى على أحد أن قادة لبنان خذلوا شعبه بشتى الطرق، فلقد استنزفوا موارد البلد بشكل متواصل من خلال مزيج من الفساد ونقص الكفاءة، حتى صارت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان من بين أعلى النسب في العالم، وأهملوا أزمة إدارة النفايات حتى استفحلت، كما تسببت الحروب الأهلية، والانتهاكات العسكرية، وأزمات أخرى في تسريع وتيرة تدهور الاقتصاد، الأمر الذي أسهم في ارتفاع البطالة بصورة مطردة وتزايد مظاهر عدم المساواة بشكل حاد.لكن ملف الصحة قد يمثل الجانب الأعمق لعدم المساواة، فالصحة العامة على أي حال تكمن في صميم الرخاء الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. ورغم التحسن الذي طرأ على النظام الصحي في لبنان في السنوات الأخيرة من ناحيتي الإتاحة والجودة، فقد أهمل النظام القائم للإدارة الحكومية والتمويل وترتيبات التوصيل نواح أخرى كثيرة.
من واقع الحال القائمة، نجد أن نصف سكان لبنان تقريبا لا يتمتعون بأي شكل من أشكال تغطية التأمين الصحي، فلا يتاح لهم سوى تغطية رعاية من الدرجة الثانية والثالثة، مع قيام وزارة الصحة العامة بتغطية العلاج في المستشفيات العامة أو حتى المستشفيات الخاصة، التي تكون تكلفة خدماتها مقيدة بسقف ومستوى محدد سلفا.غير أن الوزارة تفتقر إلى صلاحيات تغطية محددة بدقة، كما أنها تعاني كثيرا في عملية التحكم في مسارات تدفق المرضى عبر المستويات المختلفة لنظام الرعاية الصحية، في ظل صلاحية محدودة بتوجيه المرضى غير المؤمن عليهم إلى المستشفيات العامة، فضلا عن ذلك، لا يمكن التنبؤ بنفقات الوزارة على الرعاية، لا سيما أن المستشفيات الخاصة قد تطالب بأسعار علاج تتعدى الحد الأقصى بعد الانتهاء من العلاج.لكن العبء على الوزارة يتزايد ويثقل، لأنها مسؤولة عن رعاية جزء كبير من سكان لبنان من كبار السن (من عمر 65 فما فوق) المتنامي عددهم، حيث يتوقع أن ترتفع نسبتهم إلى 21% من عدد السكان الكلي بحلول عام 2050، بدلا من 7.3% اليوم. وبما أن العاملين في القطاع الرسمي يفقدون تغطيتهم الصحية عندما يصلون سن التقاعد وهو 64 عاما، وفي ظل عدم وجود برنامج تقاعدي شامل لكبار السن، فقد تصل نسبة من لا يحظون بأي شكل من أشكال التأمين الصحي من هذه المجموعة إلى 50%. (أما العاملون غير النظاميين فهم أسوأ حالا بالنسبة إلى مزايا الضمان الاجتماعي).ثمة مشكلات أخرى تؤدي إلى تفاقم أشكال التفاوت في المجال الصحي، منها العقبات الإدارية، والمحسوبية السياسية، والمحاباة على أساس طائفي أو ديني، ومطالبة المرضى بمبالغ من أموالهم الخاصة أو بصفة غير رسمية. ويعد الإنفاق من الأموال الخاصة على الصحة مرتفعا في لبنان- حيث تصل نسبته إلى 36.5% من التكلفة الكلية- تدفع منها الأسر الأقل دخلا حصة غير متناسبة. أما ذووا الإعاقة- ويمثلون نحو 10 إلى 15% من سكان لبنان- فهم من بين الفئات الأكثر تضررا، حيث نادرا ما تلبى احتياجاتهم الكاملة من الرعاية الصحية.الأسوأ من ذلك تركيز نظام الرعاية الصحية في لبنان على علاج الإصابات والأمراض العادية، مع تضاؤل نسبة الإنفاق المخصصة من ميزانية الصحة العامة على الرعاية الوقائية والأولية إلى أقل من 10%، رغم أن الأمراض غير المعدية كأمراض القلب والسرطان والسكر، وهي أمراض يمكن التحكم في كثير من عوامل مخاطر الإصابة بها، تتسبب في نحو 90% من الوفيات في لبنان. تتلخص الخطوة الأولى نحو الإصلاح في ضرورة تغيير العقلية، فالصحة ليست مسألة طبية فحسب، إنما يجب النظر إليها كجزء من نظام بيئي اجتماعي واقتصادي وسياساتي معقد. ويعني هذا التعرف على مدى وكيفية تأثير السلطة السياسية والاجتماعية على النتائج الصحية. كما يعني أيضا معالجة المخاطر البيئية على الصحة العامة (كتلوث الهواء وسوء إدارة النفايات)، وتحديث برامج الحماية الاجتماعية (كتلك المتعلقة بالإعاقة أو إعانات البطالة) لدعم تغطية الرعاية الصحية. ولتعظيم إمكانية تحقيق السياسات والبرامج للأهداف المرجوة منها، يجب أن تتوفر أدلة كافية ومناسبة (على جدية المساعي) في لب عمليات صنع القرار.ستتيح مثل تلك الإصلاحات الفرصة للحكومة القادمة لإعادة تصور العلاقة بين الشعب والدولة، فقد قدمت الاحتجاجات تذكيرا قويا بأن المواطنين العاديين يشكلون عوامل تغيير حاسمة، ويجب أن تعكس الإصلاحات ذلك الأمر، مع مشاركة شعبية قوية تكفل تجاوب النظام الصحي- والسياسة العامة بشكل أعم- مع احتياجات المواطنين.في الوقت ذاته ينبغي لصانعي السياسات تقديم آليات لتقوية وتشديد المساءلة على كل مستويات النظام الصحي. فلبنان محاصر بالفساد، ولا يستثنى من ذلك القطاع الصحي: إذ تتنوع مظاهر الفساد فيه بين تغيب مقدمي الرعاية الصحية، وطلب مبالغ مالية بصفة غير رسمية، واختلاس الأموال العامة، والتلاعب في فواتير العلاج، وتفشي التعاملات غير الأخلاقية أو غير الخاضعة للنظم واللوائح مع شركات الأدوية.ينبغي أن تضع جهود الإصلاح على قمة أولوياتها توفير مستوى أكبر وأوسع من الشفافية، بأن تشترط مثلا إعلان نتائج الأداء الدوري والمراجعات المالية علنا، كما ينبغي أيضا أن تسعى تلك الجهود لتقوية المساءلة الاجتماعية، من خلال إنشاء مجالس رقابة مجتمعية، ولجان مراقبة من المجتمع المدني، والتخطيط المشترك والميزانية المشتركة، والرصد من قبل المواطنين من خلال سجلات لقياس الأداء، ووسائل إعلام جيدة.ستكون لدى حكومة لبنان فرصة لوضع الأسس لمستقبل أكثر استقرارا وعدالة ورخاء، ولكي تنجح في ذلك، ستحتاج إلى دعم شعبي قوي ومتواصل، والحق أن عملية إعادة تصور النظام الصحي من شأنها أن تقطع شوطا بعيدا نحو ضمان تنفيذه.* أستاذ ورئيس قسم الإدارة والسياسات الصحية، ومؤسس ومدير مركز ترشيد السياسات الصحية (K2P) في الجامعة الأميركية في بيروت بلبنان.«فادي الجردلي»
أمراض القلب والسرطان والسكر تتسبب في نحو 90% من الوفيات في لبنان
جهود الإصلاح ينبغي أن تضع على قمة أولوياتها توفير مستوى أكبر وأوسع من الشفافية
على صانعي السياسات في لبنان تقديم آليات لتقوية وتشديد المساءلة على كل مستويات النظام الصحي
جهود الإصلاح ينبغي أن تضع على قمة أولوياتها توفير مستوى أكبر وأوسع من الشفافية
على صانعي السياسات في لبنان تقديم آليات لتقوية وتشديد المساءلة على كل مستويات النظام الصحي