خاضت صحيفة "واشنطن بوست" معركة ناجحة لنشر وثائق تكشف أن المسؤولين الأميركيين كانوا يختلقون الأكاذيب طوال سنوات عن الجهود الأميركية العسكرية في أفغانستان، فأثبتت بذلك أن الوضع لم يتغير كثيراً منذ حقبة فيتنام، ومع ذلك من الغريب أن يبدو المستنقع الذي نواجهه في هذا العصر أكثر عمقاً بكثير.ظهرت المعلومات عن أفغانستان بعدما أصبحت الولايات المتحدة قليلة الثقة لدرجة أن تبدو أي خيبات أخرى مستبعدة. عبّر أكثر من 50% من البلد عن استمرار ثقته بقدرة الحكومة الفدرالية على اتخاذ قرارات صائبة، في بداية عهد نيكسون على الأقل، أما اليوم فتقتصر تلك النسبة على 17%، ويُفترض أن تكون المعلومات التي نشرتها "واشنطن بوست" صادمة، لكن يصعب أن نتخيل صدمة أي قارئ في ظل الظروف الراهنة.
تزامناً مع غياب الصدمة المتوقعة، تغيب أيضاً الطاقة اللازمة لمكافحة الحرب، فقد أرادت الولايات المتحدة التي تعرضت لخيبة أمل جديدة في 1971 أن تنسحب من فيتنام وحققت هدفها خلال سنوات قليلة، أما الولايات المتحدة الأكثر تشاؤماً في 2019، فأرادت الانسحاب من أفغانستان منذ عشر سنوات تقريباً من دون أن تتمكن من تنفيذ رغبتها.تراجع الوجود العسكري الأميركي بدرجة كبيرة منذ خطة أوباما بزيادة أعداد الجنود، ثم الزيادة العسكرية الأصغر حجماً في بداية عهد ترامب، لذا من المتوقع أن تتراجع أعدادهم تدريجاً إلى أن ينسحبوا بالكامل خلال ولاية ترامب الثانية أو في عهد بيرني ساندرز (مع أو من دون عقد اتفاق مع حركة طالبان): بعد 20 سنة، سنكتشف أخيراً أن الحروب اللامتناهية لها نهاية أيضاً.لكن من خلال تقليص أعداد القوات العسكرية، ربما يسعى البنتاغون إلى ترسيخ وضع مستدام مفيد بدل الوصول إلى نقطة النهاية، مما يعني تحديد عدد معيّن يُعتبر كافياً لإدارة وضع المراوحة والتمسك ببعض الأهداف الأميركية وتجنب أي هزيمة محرجة.تذكر الوثائق التي نشرتها "واشنطن بوست" كيف كذب صانعو السياسة، ليس لتجنب هزيمة على طريقة فيتنام فقط، بل لطرح عملية انتقالية استراتيجية لا تتطلب عند استكمالها أكاذيب رسمية كثيرة لأن أحداً لن يعود مهتماً بهذه المسألة حينها. بناءً على هذه الرؤية الافتراضية التي اتضحت في مرحلة متأخرة، شكّلت أول 10 سنوات من حرب أفغانستان أحدث تجربة في مجال الحرب التقليدية وبناء الأوطان ونشر الديمقراطية المثالية... لكن خلال العقد الثاني منها، تحوّل الصراع تدريجاً إلى أبرز مثال على الإجراءات البوليسية المتكاثرة واللامتناهية وقليلة الإصابات التي تُحدد معالم الاستراتيجية الأميركية الكبرى في عهد أوباما ثم ترامب.تترافق هذه الاستراتيجية، رغم جميع عيوبها المحتملة، مع منفعة واضحة بالنسبة إلى صانعي سياسة الأمن القومي، فهي تُحبِط المعارضة الشعبية لأنها لا تقدم سبباً قوياً (من حيث عدد الضحايا الهائل أو الهزائم العسكرية الواضحة) لتبرير مناهضة الحرب لدرجة التخلي عن المعسكرَين اليميني واليساري وتحوّل هذا التوجه إلى جزء من المخاوف الشعبية الكبرى. في هذا السياق، كتب صامويل موين من كلية الحقوق في جامعة "يال" مقالة لمجلة "ذا نيو ريبابليك" خلال السنة الماضية، بأن اتخاذ الحروب الأميركية طابعاً "محصوراً" (كلما زادت تلك الحروب شبهاً بأفغانستان في 2019، بدل أفغانستان في 2010، أو العراق في 2005، أو فيتنام في 1968)، "يزيد احتمال أن تستمر الحرب إلى ما لا نهاية".يمكننا أن نوافق على هذا التشخيص من دون أن نتقبل بالكامل مشاعر المعاناة أو اليأس التي ترافق مناهضة الحرب، وعلى غرار خصائص أخرى للانهيار الحاصل، لن يكون مفهوم "السلام الأميركي" المبني على إجراءات بوليسية لامتناهية وصراعات مجمّدة إلى أجل غير مسمى وتأجيل دائم للهزيمة، أسوأ سيناريو جيوسياسي متوقع، حتى أنه يبقى أفضل من بعض البدائل الأكثر دموية.مع ذلك، لا مفر من الشعور بالتشاؤم عند قراءة لائحة الأكاذيب الرسمية التي استُعملت طوال 18 سنة في أفغانستان، كما أوردتها "واشنطن بوست"، ثم التفكير باحتمال أن تمرّ سنوات أو عقود أو حتى أجيال قبل أن يموت آخر جندي أميركي بسبب هذه الأخطاء.* «روس دوتات»
مقالات
أكاذيب صادمة حول حرب أفغانستان
15-12-2019