عمالقة التكنولوجيا تريد السلطة

نشر في 18-12-2019
آخر تحديث 18-12-2019 | 00:35
 بروجيكت سنديكيت على الرغم من أننا بدأنا للتو فَهمَ الأضرار التي تُلحِقها منصات الإنترنت بالصحة العامة، والخصوصية، والمنافسة، فإننا سنواجه قريباً تهديداً أكثر جوهرية من جانب شركات التكنولوجيا الضخمة.

وفي وقت أصبحت مؤسسات الديمقراطية الليبرالية ضعيفة بالفعل، تشكل «غوغل»، و«فيسبوك»، و«أمازون»، و«ميكروسوفت» تهديداً للحكومات المنتخبة ديمقراطياً، من خلال تقديم خدماتها الخاصة كبديل.

ويمثل هذا تغييراً كبيراً مقارنة بالماضي، فقبل عشرين سنة مضت، كان تفاعل شركات التكنولوجيا الأميركية مع الحكومة الفدرالية بسيطاً، بعيداً عن سداد الضرائب، فقد ابتكر المهندسون منتجات عملت على تمكين العملاء، وشجعتهم الحكومة.

ولكن بعد الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، تغير موقف البلاد فيما يتصل بالمراقبة. فقد تعاون مجتمع الاستخبارات الأميركي مع المنصات الرقمية الرائدة -بدءا بـ«غوغل»- لجمع مخازن ضخمة من البيانات الشخصية التي يمكن استخدامها لمنع وقوع هجمات في المستقبل. علاوة على ذلك، بدءاً من عام 2008، أصبحت «غوغل» و«فيسبوك» وغيرهما أدوات لا غنى عنها للساسة، وقد ساعدت العلاقة الوثيقة بين صناعة التكنولوجيا وإدارة الرئيس باراك أوباما على حمايتها من الفحص والتدقيق، في حين أتقنت ما أسمته شوشانا زوبوف من كلية هارفارد لإدارة الأعمال «رأسمالية المراقبة».

في حين تستخدم الرأسمالية الصناعية التكنولوجيا للتلاعب بالبيئة، تتلاعب رأسمالية المراقبة بالسلوك البشري. ويعمل ممارسوها على تحويل التجارب والخبرات البشرية إلى بيانات، وخلق دُمى الفودو الرقمية (الملفات) التي تمثل كل فرد، ثم استخدام هذه الأشكال الافتراضية لتصميم وبيع منتجات التنبؤ السلوكي.

عملت هذه المنتجات على تحويل السوق وصناعة الإعلان، من خلال تكميل الاستهداف الديموغرافي بتوقعات محددة لكل عميل محتمل. كما تستخدم رموز رأسمالية المراقبة الرائدة -«غوغل»، و«فيسبوك»، و«أمازون»، و«ميكروسوفت»- البيانات التي تجمعها للتلاعب بنتائج البحث الفردي، مما يحد من الاختيارات المتاحة للمستهلكين ويزيد من احتمال تصرفهم بما يتفق مع التوقعات، وكما تزعم زوبوف، فإن رأسمالية المراقبة تهدد الاستقلال الفردي وقابلية المجتمعات المفتوحة للاستمرار.

التحرك بسرعة

في عام 2016، ظهر أول دليل على أن منصات الإنترنت من الممكن أن تؤثر في العالم الحقيقي على دول بأكملها- لا على الأفراد فحسب- عندما ظهرت حملات التضليل على الإنترنت بشكل بارز في استفتاء المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي والانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، عملت منصات الإنترنت على تمكين التدخل في الانتخابات في العديد من الدول الأخرى، ولعبت من دون قصد دوراً في الإبادة الجماعية في ميانمار، والإرهاب في نيوزيلندا، والقتل الجماعي في الولايات المتحدة وأوروبا، وتفشي الحصبة في دول سبق لها أن تمكنت من القضاء على المرض. وهي الآن تستخدم بانتظام لنشر المعلومات المضللة، والتحريض على التطرف العنيف، واستقطاب الناخبين.

لا أعتقد أن منصات الإنترنت كانت تعتزم حقاً تمكين هذه الأضرار، لكن نماذج أعمالها، وخوارزمياتها، وثقافاتها الداخلية جعلت مثل هذه الأضرار حتمية. وكمواطنين، يتعين علينا جميعاً أن ندرك أن منصات الإنترنت الآن تؤثر على حياتنا بقدر ما تؤثر عليها حكوماتنا أو أكثر، فعندما تمنع «فيسبوك» صور الرضاعة الطبيعية، لا يستطيع مستخدموها الطعن في هذا القرار، حتى وإن كانوا يعيشون في بلد يحمي حرية التعبير دستورياً، وعندما تغير سياساتها لكي تسمح بالإعلانات الكاذبة في الحملات السياسية فإنها بذلك تدعو في الأساس إلى المزيد من الهجمات على انتخاباتنا، وبالتالي على الديمقراطية ذاتها.

الأسوأ من ذلك أن المجتمعات المفتوحة لم تتمكن بعد من السيطرة على الموجة الأولى من الأضرار التي أطلقتها منصات الإنترنت، وأكثر المبادرات رصانة حتى يومنا هذا (القانون العام لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي وقانون خصوصية المستهلك في ولاية كاليفورنيا) لا تخاطب سوى مجموعة فرعية من المشكلة، ولا يزال صناع السياسات في المراحل المبكرة من فهم الكيفية التي تعمل بها رأسمالية المراقبة. ولا يوجد حتى إجماع على أن هذه النماذج الاقتصادية الجديدة تشكل تهديداً، فضلاً عن الإجماع على خطة لتحييد تأثيراتها الضارة.

من ناحية أخرى، انتقلت «غوغل»، و«فيسبوك»، و«أمازون»، و«ميكروسوفت» بالفعل إلى المرحلة التالية، فبعد أن أتقنت رأسمالية المراقبة، أصبحت في وضع يسمح لها بإطلاق مبادرات مصممة لإزاحة الخدمات التي تقدمها الحكومة تقليدياً، وهي ليست أولى الشركات التي تقوم بذلك، لكن طموحاتها والوسائل المتاحة لها تفوق كثيراً تلك التي كانت متوافرة لغيرها من الشركات الخاصة المفوضة من الحكومة، مثل صناعة السجون الهادفة للربح.

الواقع أن كل شركات المنصات الرائدة مدفوعة بأهداف واضحة. وبعضها صريح، كما هي الحال مع مهمة «غوغل» المتمثلة في «تنظيم معلومات العالم»، ورغبة «فيسبوك» في تجميع العالم في شبكة واحدة. ويمكن استنباط دوافع شركات أخرى من سلوكها، فمن الواضح أن شركة أمازون تريد أن تكون العمود الفقري للاقتصاد، في حين تريد «ميكروسوفت» أن تكون شريك التكنولوجيا الأساسي للشركات والحكومات.

وفي كل من هذه الحالات، يتلخص الهدف غير المعلن في السيطرة. وانطلاقاً من عدم رضاها بالفوائد المترتبة على رأسمالية المراقبة، التي أصبحت مقيدة اليوم بحجم سوق الإعلان، تتحرك شركات المنصات بقوة وعنف -وبأسلوب لا يخلو من التحدي في بعض الأحيان- إلى أسواق جديدة... وكسر الأشياء. على سبيل المثال، تعرض شركة Sidewalk Labs، وهي شركة تابعة لشركة غوغل الأم Alphabet، الاستحواذ على الخدمات التي تقدمها الحكومة المحلية، في مقابل السيطرة على البيانات العامة وسلطة اتخاذ القرار.

وسواء كان ذلك مقصوداً أو من قبيل المصادفة، فإن نموذج الأعمال هذا قد يزيح تدريجياً إمكانية الاختيار الشخصي، ويستعيض عن الديمقراطيات على المستوى المحلي بالخوارزميات.

على نحو مماثل، فمع الإطلاق المزمع لعملتها المشفرة الليبرا، تحاول شركة «فيسبوك» التنافس مع العملات الاحتياطية مثل الدولار الأميركي واليورو. ورغم أن الليبرا حظيت في مستهل الأمر بدعم العديد من شركات الخدمات المالية الرائدة، فقد أثار كشف النقاب عنها ردة فِعل عالمية معاكسة، وانسحب العديد من هؤلاء الشركاء، ولكن بصرف النظر عن مصير الليبرا، سوف تستمر شركة فيسبوك في الاضطلاع بدور كبير في تقويض الديمقراطية. ويشير استعدادها الصريح لتسهيل نشر أكاذيب معروفة، إلى جانب انتقاد رئيسها التنفيذي لمرشحة رئاسية ديمقراطية بارزة (إليزابيث وارِن)، إلى أن الشركة لا تخشى وضع مصالحها الخاصة قبل مصالح البلاد.

من جانبها، انتقلت «أمازون» بقوة إلى التعاقد الحكومي، حتى توفر مجموعة واسعة من خدمات المعلومات إلى هيئات فدرالية ومحلية، وقدمت منتجات التعرف على الوجوه لهيئات إنفاذ القانون، مثل وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، حتى برغم أن البرنامج لا يخلو حالياً من تحيز ضمني ضد الأشخاص من ذوي البشرة غير البيضاء.

كما تستخدم شركة أمازون خطها باسم Ring من أجراس الأبواب الذكية، للتوسط في اتفاقيات التعاون مع أقسام الشرطة المحلية. وعندما يقدم مالكو المساكن موافقة مسبقة، يصبح بوسع مسؤولي إنفاذ القانون الاطلاع على خلاصات الفيديو المخزنة على نظام Ring، دون الحصول على إذن قضائي، ومن المفهوم أن يشعر أنصار الحريات المدنية والخبراء بالقلق من أن شبكات Ring من شأنها -عندما تقترن بتكنولوجيا التعرف على الوجوه- أن تسمح بأشكال جديدة من المراقبة ربما تكون غير دستورية. كما اكتشف الصحافيون أن صفقات شبكات Ring التي تعقدها شركة أمازون تمنحها نفوذاً لا تستحقه على كيفية تواصل هيئات إنفاذ القانون مع جماهير الناس.

أخيراً، كانت مبادرات شركة ميكروسوفت أقل وقاحة، لكنها ليست بالضرورة أقل إثارة للمشكلات. على سبيل المثال، يتضمن عملها في مجال الذكاء الاصطناعي تطبيقات من شأنها أن تعمل على أتمتة أعمال الشرطة، وكما هي الحال مع التعرف على الوجوه، كانت تطبيقات الذكاء الاصطناعي المبكرة الخاصة بأعمال الشرطة مبتلاة بتحيز واضح.

وبصرف النظر عما إذا كان هذا نتيجة لهندسة رديئة أو تفضيلات هزيلة من جانب العملاء، فإن الحقيقة هي أن لا أحد وجد حتى الآن حلاً للمشكلة، وقد اكتُشِف تحيز الخوارزميات عبر مجموعة واسعة من التطبيقات، مثل البرنامج الذي يستعرض السير الذاتية وطلبات الرهن العقاري.

الوقت ينفد

على مدار العقدين الماضيين، استغلت منصات الإنترنت إلغاء الضوابط التنظيمية والثغرات القانونية لبناء أعمال في مختلف أنحاء العالم وجمع ثروات هائلة، ومع النجاح أتت الغطرسة، وخاصة من شركتي «فيسبوك» و«غوغل»، اللتين تحديتا صناع السياسات في سياقات لم تجرؤ شركات أخرى على الاقتراب منها. في مستهل الأمر، رفضت كل من الشركتين إرسال رئيسها التنفيذي إلى أولى جلسات الاستماع في «الكونغرس» بشأن التدخل في الانتخابات. وبشكل مستمر، تجنب مارك زوكربيرغ الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك الإدلاء بشهادته أمام لجان برلمانية في كندا والمملكة المتحدة، اللتين تُـعَدان من أكبر أسواق «فيسبوك». وعندما مَثَل مسؤولو «فيسبوك» و«غوغل» التنفيذيون أمام هيئات رقابية، فإنهم كانوا يتوخون الحذر ويراوغون غالباً.

إن هذه الشركات تسيطر الآن على حياتنا، وغالباً بطرق لا ندركها حتى. وهي كيانات غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة، وهي تضع عمليات خوارزمية في محل تقرير المصير واتخاذ القرار الديمقراطي. ولا يجوز للمجتمعات المفتوحة أن تسمح لشركات بالتصرف على هذا النحو. ويتعين علينا كمواطنين أن نطالب حكوماتنا بإخضاع هذه الكيانات، بينما لا تزال لديها القدرة على القيام بذلك.

* المؤسس المشارك لشركة Elevation Partners، وهو من أوائل المستثمرين في «فيسبوك»، و«غوغل»، و«أمازون».

«بروجر مكنامي»

back to top