الصفقة الخضراء الأوروبية

نشر في 18-12-2019
آخر تحديث 18-12-2019 | 00:00
لقد حققت أوروبا طفرة تاريخية عن طريق خطتها الطموحة، والصعبة، والممكنة، وتعد الصفقة الخضراء بريق أمل قوي في عالم يشوبه الاضطراب، وعدم الاستقرار.
 بروجيكت سنديكيت تعتبر الصفقة الخضراء الأوروبية، التي أعلنتها المفوضية الأوروبية، أول خطة شاملة لتحقيق التنمية المستدامة في أي منطقة عالمية رئيسة، وعليه فقد أصبحت معيارًا عالميًا، بل دليلا يفسر "كيفية" التخطيط للتحول إلى اقتصاد مزدهر، وشامل اجتماعيًا، ومستدام بيئيًا.

ومن المؤكد أن المهام التي تواجه الاتحاد الأوروبي شاقة؛ بل حتى قراءة الوثيقة الجديدة أمر مروع، إذ تبدو وكأنها سيل من الخطط، والمشاورات، وأطر العمل، والقوانين، والميزانيات، وكل ما يتعلق بالدبلوماسية، والعديد من الموضوعات المترابطة، بما في ذلك الطاقة، والنقل، والغذاء، والصناعة.

وسيسخر النقاد من البيروقراطية الأوروبية، ولكن هذه الأخيرة هي البيروقراطية في أرقى المعاني التي حددها فيبر: إنها عقلانية، كما أن أهداف التنمية المستدامة محددة بوضوح؛ وتستند الأهداف إلى الأهداف المحددة زمنيا؛ وتنشأ العمليات والإجراءات تمشيا مع الأهداف.

وتتمثل الأهداف العامة في الوصول إلى "الحياد المناخي" (صافي انبعاثات الغازات الدفيئة) بحلول عام 2050؛ واقتصاد دائري ينهي التلوث المدمر الذي تسببه المواد البلاستيكية، وغيرها من البتروكيماويات والمبيدات الحشرية، والنفايات والمواد السامة؛ ونظام "المزرعة إلى المائدة" الغذائي، الذي لا يقتل الأشخاص بحمية تعتمد على المعالجة المفرطة، ولا يقتل الأرض بممارسات زراعية غير مستدامة.

وتدرك المفوضية الأوروبية أن هذا يجب أن يكون نهجًا قائمًا على المواطن، ومرة أخرى، سينظر النقاد إلى الحديث بشأن الاستشارات العامة على أنه كلام ساذج، ولكن، قل ذلك للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي واجه أعمال شغب في الشوارع لأكثر من عام؛ أو الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا، الذي اندلعت في بلاده أعمال الشغب فجأة، في خريف هذا العام، بعد إعلان زيادة طفيفة في أسعار المترو، ويعد كل من ماكرون، وبيانيرا من دعاة حماية البيئة المثاليين، إذ التزم كلاهما أن يَمتثل بلداهما للحياد المناخي بحلول عام 2050، ويبحث كلاهما، على وجه السرعة، عن طريق للمشاورات العامة، ولكن بعد فوات الأوان.

وسيسخر الليبراليون الأميركيون أيضًا، وسيقولون إن "السوق" ستعمل على حل مشكلة تغير المناخ، ومع ذلك، لننظر إلى الولايات المتحدة اليوم، إذا كانت النيوليبرالية تفعل للكوكب ما فعلته للبنية التحتية الأميركية، فنحن جميعًا في مشكلة كبيرة، إذ يعني الوصول إلى مطار أميركي مواجهة المصاعد، والسلالم المتحركة، وناقلات ركاب لا تعمل، وسيارات الأجرة التي لا تصل، وخطوط السكك الحديدية التي لا وجود لها، والطرق السريعة ذات ممرات، وجسور محطمة.

وسبب هذا الخلل واضح: إنه الفساد. إذ تبلغ تكلفة كل دورة انتخابات أميركية، الآن، 8 مليارات دولار أو أكثر، بتمويل من أصحاب المليارات، وشركة Big Oil (بيغ أويل)، والمجمع الصناعي العسكري، ولوبي الرعاية الصحية في القطاع الخاص، والمصالح الخاصة التي تهدف إلى الإعفاءات الضريبية وحماية الوضع الراهن. إن الحلول القائمة على السوق هي خدعة عندما تخضع السياسة للضغوط، كما هو الحال في الولايات المتحدة، وإن الصفقة الخضراء الأوروبية تُظهر الحكومة كما ينبغي أن تكون لا حكومة تابعة لمصالح الشركات.

إن الصفقة الخضراء في أوروبا هي في الواقع دليل على الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية الناجحة (من الناحية العملية لا المعنى الحزبي الضيق)، وسيتبع الاقتصاد المختلط، الذي يجمع بين الأسواق، والتنظيم الحكومي، والقطاع العام، والمجتمع المدني، استراتيجية مختلطة: الأهداف العامة، والاستثمارات العامة في البنية التحتية، والاستثمارات الخاصة في التحول الصناعي، وبعثات البحث والتطوير بين القطاعين العام والخاص، والسكان المطَّلعين. وفي الواقع، إنها السياسة الصناعية في أكثر أشكالها تطورا. (لقد أوضحتُ مؤخرًا هذه الاستراتيجية الاجتماعية-الديمقراطية للصفقة الجديدة الخضراء للولايات المتحدة).

وهناك ما يدعو إلى التفاؤل، والأهم من ذلك أن التكنولوجيات المتقدمة موجودة، لخلق اقتصاد متقدم خال من الكربون، وموفر للموارد، ومستدام بيئيا، وعن طريق الجمع بين الطاقة المتجددة، والتقنيات الرقمية، والمواد المتقدمة، واقتصاد المشاركة، في النقل والبنيات التحتية الأخرى، يمكننا إخلاء نظام الطاقة من الكربون، والانتقال إلى اقتصاد دائري، والحد بشكل كبير من تدفق الموارد الأولية.

ومع ذلك، يجب معالجة ثلاث تحديات كبيرة:

الأول التغلب على مصالح الوضع الراهن، حيث سيتعين على شركة "بيغ أويل" استيعاب الخسائر، ولكن يجب تعويض العمال ومناطق الفحم، وذلك عن طريق دعم الدخل وإعادة التدريب، والخدمات العامة الأخرى. إن خطط أوروبا تدعو، على النحو الصحيح، إلى "انتقال عادل".

ويكمن التحدي الثاني في التمويل، إذ ستضطر أوروبا، وفي الواقع كل منطقة في العالم، إلى توجيه زيادة سنوية بنسبة تتراوح ما بين 1 و2٪ من الإنتاج السنوي، نحو الاقتصاد الأخضر، بما في ذلك البنية الأساسية الجديدة، والمشتريات العامة، والبحث والتطوير، وإعادة التجهيز الصناعي، وغيرها من الاحتياجات، وَسَيُمَوَّل جزء كبير من هذا عن طريق القطاع الخاص، ولكن يجب أن يمول الجزء الأكبر عن طريق الميزانيات الحكومية، وستحتاج أوروبا إلى مواجهة الإيديولوجيين الذين يعارضون المزيد من إنفاق الاتحاد الأوروبي.

والتحدي الكبير الأخير هو الدبلوماسية، إذ تُمثل أوروبا نحو 9.1٪ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، مقارنة بـ30٪ بالنسبة للصين، و14٪ بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، وحتى لو نفذت أوروبا الصفقة الخضراء بالكامل، فسيكون من الخطأ أن تخفق الصين، والولايات المتحدة، وغيرها من المناطق في مجاراة جهودها، ومن ثم، فإن الزعماء الأوروبيين يعتبرون الدبلوماسية مهمة لنجاح الصفقة الخضراء.

لنأخذ الصين، على سبيل المثال، فبعد عقود من النمو السريع الذي أدى إلى القضاء على الفقر الشامل، أصبحت الصين أكبر مصدر لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم (على الرغم من أنها تمثل فقط نصف انبعاثات أميركا للشخص الواحد)، وستحدد الصين وحدها مستقبل مناخ العالم، ومن ناحية، يعرف القادة الصينيون أن بلادهم شديدة التأثر بتغير المناخ، وهم معرضون لخطر العزلة الدبلوماسية إذا أخفقت في إزالة الكربون، ومن ناحية أخرى، فهم يواجهون مخاطر الحرب الباردة الأميركية المضللة. ويقاوم المتشددون الحكوميون، ولوبي الفحم الصيني إزالة الكربون في خضم ضغوط الولايات المتحدة، خاصة أن ترامب نفسه يرفض إزالة الكربون.

ويمكن للدبلوماسية الأوروبية أن تحدث فرقًا إذا رفضت مواكبة الجهود الأميركية الخبيثة لاحتواء الصين، وأن تقدم لها، بدلاً من ذلك، شراكة واضحة وإيجابية: وهي العمل معًا في مجال البنية التحتية، والتنمية والتكنولوجيا الأوراسية المستدامة، في سياق صفقة خضراء صينية، جنبا إلى جنب مع أوروبا. ومن شأن مثل هذه الشراكة أن تفيد، إلى حد كبير، أوروبا، والصين، وعشرات الدول الأوروبية الآسيوية، بل العالم بأسره.

لقد حققت أوروبا طفرة تاريخية عن طريق خطتها الطموحة، والصعبة، والممكنة، وتعد الصفقة الخضراء بريق أمل قوي في عالم يشوبه الاضطراب، وعدم الاستقرار.

* أستاذ التنمية المستدامة، وأستاذ السياسة الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة، وشبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة.

«جيفري دي ساكس»

back to top