ترامب وحظره العنصري لمعاداة السامية

نشر في 19-12-2019
آخر تحديث 19-12-2019 | 00:00
إن مكافحة العنصرية، أينما نشأت، هدف يستحق الإشادة والثناء، ولكنّ اختصاص معاداة السامية في أمر تنفيذي رئاسي، وخاصة عندما يكون هذا المفهوم مرتبطا بشكل وثيق بوجهات نظر حول دولة إسرائيل، تصرف غير صحيح بالقطع.
 بروجيكت سنديكيت يتصور الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن معاداة السامية مشكلة مستفحلة في أميركا، لكنه لا يهتم إلى هذا الحد بالنازيين الجدد الذين يصرخون بأن اليهود وغيرهم من الأقليات "لن يحلوا محلنا"، لأنه يعتقد أن العديد من المتعصبين من ذوي البشرة البيضاء الذين يؤمنون بتفوقهم "أناس في غاية الروعة". كلا، فإن ترامب مهموم بشكل أكبر بالجامعات الأميركية، حيث ينادي الطلاب بمقاطعة إسرائيل دعما للفلسطينيين.

وَقَّع ترامب للتو على أمر تنفيذي يقضي بحجب الأموال الفدرالية عن المؤسسات التعليمية التي تفشل في مكافحة معاداة السامية، ونظرا لتعريف اليهود في هذا الأمر التنفيذي على أنهم مجموعة مميزة على أساس خصائص عِرقية، أو عنصرية، أو وطنية، فإن الهجوم على إسرائيل يشكل معاداة للسامية بحكم التعريف، وهذا في حقيقة الأمر موقف غاريد كوشنر، صِهر ترامب اليهودي، الذي يعتقد أن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية".

هناك، بطبيعة الحال، أشكال من معاداة السامية، متعددة بقدر تعدد التفسيرات المطروحة لما يعنيه أن يكون المرء يهوديا. عندما يتشدق ترامب وأنصاره في التجمعات الانتخابية الحاشدة حول جمعيات سرية غامضة تتألف من خبراء ماليين دوليين يعملون على تقويض مصالح "الناس العاديين المحترمين"، فقد يفسر بعض الناس ذلك على أنه عبارة مجازية شائعة في معاداة السامية، وخاصة عندما يجري التلويح بصورة جورج سوروس للتأكيد على هذه الرسالة، حتى أن ترامب ألمح إلى احتمال قيام هذا الرجل اليهودي المروج لحقوق الإنسان والمحب للخير عمدا بتمويل "قوافل" من اللاجئين والأجانب غير الشرعيين حتى يتسنى لهم نشر الفوضى والأذى في الولايات المتحدة. وفي المجر، موطن سوروس الأصلي، نستطيع أن نعتبر الهجمات الموجهة ضده بوصفه عدوا عالميا للشعب معاداة صريحة لا لبس فيها للسامية.

تمتد جذور نظريات المؤامرة حول القوة اليهودية الشريرة عميقا في التاريخ، فقد عملت بروتوكولات حكماء صهيون، الوثيقة الروسية المزورة التي نُـشِرَت عام 1903، على إشاعة تصور مفاده أن المصرفيين والرأسماليين اليهود يحركون الخيوط سِرا للسيطرة على العالم، وكان هنري فورد واحدا من الأشخاص الأكثر بروزا الذين آمنوا بهذا الهراء.

أما تاريخ معاداة الصهيونية فليس طويلا، ففي السنوات الأولى من قيام الدولة اليهودية، كانت إسرائيل تحظى بشعبية بين العديد من اليساريين، لأنها بنيت على أفكار اشتراكية، وبدأ رأي اليسار في أوروبا والولايات المتحدة ينقلب ضد إسرائيل بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عندما احتلت القوات الإسرائيلية مناطق عربية، وعلى نحو متزايد أصبحت إسرائيل تُرى على أنها قوة استعمارية، أو دولة عنصرية.

قد يتفق المرء أو لا يتفق مع هذه النظرة لإسرائيل، لكن قِلة من الناس ينكرون أن الاحتلال، كما تكون الحال عادة عندما يقع مدنيون تحت رحمة قوة عسكرية أجنبية، يقود إلى القهر والاضطهاد، وعلى هذا فإن الدفاع بقوة عن الحقوق الفلسطينية والانتقاد الشديد للسياسات الإسرائيلية، في الحرم الجامعي أو أي مكان آخر، لا يجعلان المرء معاديا للسامية بشكل تلقائي، لكن الأمر لا يخلو من أشكال متطرفة من معاداة الصهيونية التي تنطوي تلقائيا على معاداة السامية أيضا، والسؤال هو متى نستطيع أن نجزم بأن هذا الخط جرى تجاوزه.

قد يزعم بعض المراقبين أن إنكار حق اليهود في أن يكون لهم وطنهم يعتبر معاداة للسامية، وهذا في واقع الأمر أحد الافتراضات التي بنى عليها ترامب أمره التنفيذي، وهناك أيضا بعض العناصر على اليسار الراديكالي- الممثلة بكل تأكيد في المؤسسات التعليمية- المهووسة باضطهاد الفلسطينيين إلى الحد الذي يجعلها تعتبر إسرائيل الشر الأعظم في العالم، ومثلما كان أعداء السامية في الماضي يربطون عادة بين اليهود والولايات المتحدة، باعتبارهما المصدرين التوءمين للخبث الرأسمالي عديم الجذور، فإن بعض أعداء الصهيونية في العصر الحديث يجمعون بين معاداتهم لأميركا وبغضهم لإسرائيل. يرى بعض اليساريين أن إسرائيل وأخاها الأكبر الأميركي، لا يمثلان الـمَعقِل الأخير للإمبريالية الغربية العنصرية فحسب، بل إن فكرة الـعُصبة اليهودية الرأسمالية الخفية قد تدخل أيضا في عِلم الشياطين اليساري بالقدر ذاته من السهولة الذي تصيب به اليمين المتطرف بعدواها. وقد طارد هذا التحامل الذميم حزب العمال البريطاني، وهو الأمر الذي فشل زعيمه جيرمي كوربين على نحو مستمر في إدراكه.

باختصار، من الممكن أن تتحول معاداة الصهيونية بسهولة إلى معاداة السامية، لكن ليس كل منتقد لإسرائيل أصبح معاديا للصهيونية، وليس كل من يعادي الصهيونية صار منحازا ضد اليهود.

يعتمد موقف الناس من هذه القضية إلى حد كبير على كيفية تعريفهم لليهود، وهو مصدر لا نهائي للغموض والارتباك، يقضي الهالاخاه، أو مجموع الشريعة والتقاليد اليهودية، بأن كل شخص ولِد لأم يهودية، أو تحول إلى اليهودية، هو يهودي، وهذا هو الرأي التقليدي العام، لكن اليهود الإصلاحيين الأكثر ليبرالية يسمحون بثبوت الهوية اليهودية عبر الأب أيضا.

من ناحية أخرى، ويمنح قانون العودة الإسرائيلي "كل يهودي" الحق في الهجرة، لكنه يمتنع عن تعريف اليهودية، ومنذ عام 1970، كان حتى الشخص الذي له جد يهودي واحد مؤهلا ليصبح مواطنا إسرائيليا، وفي قوانين نورمبرغ سيئة السمعة، التي أشهرها النازيون في عام 1935، كان بوسع اليهودي من أب يهودي أو أم يهودية فقط أن يحتفظ بالجنسية الألمانية، في حين لم يكن هذا حقا لليهودي "الكامل" الذي ولِد لأب يهودي وأم يهودية.

الأمر برمته معقد إلى الحد الذي جعل الروائي الإسرائيلي عاموس عوز يسعى إلى تبسيط المسألة على النحو التالي: "من هو اليهودي؟ كل من هو مجنون بالقدر الكافي ليصف نفسه بأنه يهودي، فهو يهودي".

في كل الأحوال، لا يخلو التشديد على العِرق والأمة في الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بشأن مكافحة معاداة السامية من تصور خاطئ، فإسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تَدّعي أنها تمثل كل اليهود، ولكن ليس كل اليهود يربطون أنفسهم بإسرائيل بالضرورة، بل إن بعض اليهود يمقتون إسرائيل بشدة، وقد يقترح الأمر الذي أصدره ترامب أن أمثال هؤلاء مارقون مرتدون، بل ربما حتى خونة، وربما تُـرضي هذه الفكرة حكومة إسرائيل الحالية، لكنها بعيدة كل البعد عن روح الهالاخاه، أو حتى التصور الليبرالي للمواطنة.

ولا يقل تعريف اليهود بأنهم "عِرق" إشكالية عن هذا، ذلك أن اليهود ينتمون إلى العديد من الخلفيات العِرقية: ومن الصعب بكل تأكيد تعريف اليهود اليمنيين، والإثيوبيين، والروس، والمغاربة، والسويديين بأنهم مجموعة عِرقية مميزة. صحيح أن هتلر رأى اليهود كعِرق، لكن هذا ليس سببا يجعلنا نقتدي به.

إن مكافحة العنصرية، أينما نشأت، هدف يستحق الإشادة والثناء، لكن اختصاص معاداة السامية في أمر تنفيذي رئاسي، وخاصة عندما يكون هذا المفهوم مرتبطا بشكل وثيق بوجهات نظر حول دولة إسرائيل، تصرف خاطئ بالقطع، ولا شك أن المتطرفين في معاداة الصهيونية يشكلون تهديدا؛ فكل المتطرفين يشكلون تهديدا، لكن التسامح معهم أمر واجب، ما داموا يعبرون عن آرائهم بطريقة سلمية. أما خنق الآراء في الجامعات بالتهديد بحجب التمويل عنها فإنه يتعارض مع حرية التعبير التي يكفلها دستور الولايات المتحدة، ومن المؤسف أن هذه ليست العلامة الوحيدة التي تؤكد أن التمسك بالدستور ليس الأساس الرئيس الذي تقيم عليه الإدارة الأميركية الحالية مطالبتها بالشرعية.

*إيان بوروما مؤلف كتاب "قصة حب من طوكيو: مذكرات".

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

الدفاع عن الحقوق الفلسطينية والانتقاد الشديد للسياسات الإسرائيلية في الحرم الجامعي أو أي مكان لا يجعلان المرء معادياً للسامية
back to top