خيال
"خيالك واسع!"، عبارة أصبح لها وقع سلبي في مجتمعاتنا الغارقة في الواقعية المفرطة... والكاذبة! فهي بدل أن تشير للشخص المبدع ذي الخيال الخصب، أصبحت عبارة استهزاء تصف فيها "سذاجة" الشخص المقصود وانفصاله عن الواقع.كيف للعقل أن يتمدد ويتسع أفقه ونحن نحاصره من كل جانب؟ فنحن نتخمه بكثرة استخدام الهاتف الذكي فنعوق القدرة على التفكير النقدي المتفرد، حيث إن الذهن يبقى في حالة المتلقي أمام تلك الشاشة الطاغية! هذا الذهن بأمس الحاجة إلى القليل من الهدوء والسكينة كي يبرز صوته المتفرد وتظهر التصورات لما هو ممكن أن يكون، ولحبذا لو أن نصقله ونغذيه بالقراءة، فقد أصبحت ضرورة ماسّة أكثر من أي وقت سبق مع ضعف الإعلام والمناهج التعليمية. أما العائق الآخر فهو القبضة الحديدية للمنع والتحريم، فعندما تصبح دائرة المسموح ضيقة، سيختنق الإبداع بلا شك، فالتفرد ثمنه غالٍ هنا، وقد يكلفك حياتك الاجتماعية بأكملها في مجتمع يعشق النسخ الكربونية! المدهش في الأمر أن سقف الحريات في الكويت كان أكثر ارتفاعاً بكثير في الستينيات والسبعينيات مقارنةً باليوم، مما نتج عنه حركة فنية مميزة ونتاج ثقافي رائع آنذاك. حالياً تنتشر الرواية الاجتماعية في الخليج والعالم العربي عموماً مع شُح كبير في الكتب الأكاديمية وكتب الخيال العلمي، أو أي نوع من الخيال والتصور، ولا ضير في ذلك، فالرواية الاجتماعية قيّمة ومهمة، ولكن المشكلة تظهر عندما تكون مجرد اجترار للأحزان دون توفير أية حلول إبداعية أو تطور حقيقي للشخصيات خلال خط سير الرواية. أرى أن العديد يحومون في هذه الحلقة المفرغة بسبب غياب عنصر الخيال. قد يقول قائل إن الكاتب ليست مهمته أن يوفر حلولاً مثالية تحت حجة نشر الوعي بمشكلة ما فحسب، وأقول هنا: إن لم يكن أدب الأمة قادراً على تغيير منظور قرائه فسنظل حبيسي الواقع دون أي تطور، ومن الجدير بالذكر أن العرب- في أوجهم- كانوا قادرين على مواجهة ما يعتريهم من تحديات عن طريق لطائف الحيل دون الحاجة إلى رفع السيف على كل صغيرة أو لعب دور الضحية، فأين ذهبت حذاقتنا؟!
وبالطبع، فإن غياب الخيال والإبداع عَرَضٌ مقلق قد أصاب شتى مجالات الفنون والثقافة هنا كالفنون التشكيلية والموسيقى والمسلسلات، فأصبح غالبها يفتقر إلى العمق– الذي تثريه القراءة- ومجرد تكرار لأعمال سابقة بصورة سطحية ورديئة في الكثير من الأحيان. بدأت جميع المجتمعات الصناعية طفرتها بعد أن تساءل أحدهم: "ماذا لو؟"، وفي تلك المجتمعات، لا خيال يعتبر مستحيلاً، فحب التجربة واتساع الأفق سمتان تميزان هذه الدول، فقد كانت العديد من الكتب التي تحمل فلسفة وتصورات لعالم مختلف تماماً هي الوقود لتطور تلك الشعوب، حتى إن كانت تلك الأفكار مصدرا لسخرية بعض الجاهلين. إن الواقع هو ما وقع سالفاً، فينبغي ألا نبقى حبيسي واقعنا الحالي، ويمكننا تغيير الواقع، لكننا نحتاج إلى الخيال كي نتصور عالماً أجمل، فدعونا نفكر خارج حدود المعهود، ودعونا نتخيل!* "العلامة الأكيدة على العبقرية ليست المعرفة، بل القدرة على الخيال". (ألبرت أينشتاين)