هل يمكننا تحاشي حلقة الاقتصاد السياسي المفرغة؟

نشر في 20-12-2019
آخر تحديث 20-12-2019 | 00:31
 بروجيكت سنديكيت في عام 2020، ستتشابك خيوط السياستين الداخلية والجغرافية والاقتصاد، إلى حد لم نشهده في عقود من الزمن. إذ ينذر ضعف الأداء الاقتصادي وإشكاليات الإدارة الحكومية، في قسم كبير من العالم، بتحريك حلقة مفرغة، بحيث تؤدي النتائج الاقتصادية العكسية إلى شعبوية في الدخل وقومية شرسة في الخارج، مما سيؤدي بدوره إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية، في ظل تزايد إجراءات الحماية وتدهور الاستثمار وتراجع ثقة المستهلك، فالظروف الاقتصادية السيئة تولد ظروفاً سياسية سيئة، لتفضي في النهاية إلى ظروف اقتصادية وسياسية أسوأ.

تتمثل الأخبار السيئة والجيدة في أن الظروف الاقتصادية والسياسية ستستهل عام 2020 وهي محاطة بالمخاطر، فالاقتصاد العالمي معرض للسقوط في حالة من الركود، كما أن فرص حدوث صدام سياسي، بل عسكري، أكبر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة. لكن من منظور أكثر تفاؤلاً، سنجد أن الأمر لن يستغرق طويلاً لتوليد مفاجآت إيجابية قد تؤدي إلى حلقة حميدة من التحسن الاقتصادي والظروف السياسية الأقل سُـمّية، وإن كانت توقعات حدوث ذلك ضعيفة جداً.

لنبدأ بالظروف الاقتصادية... صاغ صندوق النقد الدولي مصطلح «التباطؤ المتزامن»، في إشارة إلى المأزق الحالي المتمثل في تباطؤ النمو في 90% من الاقتصاد العالمي، مع توقعات بزيادة هذا التباطؤ لمستوى أكبر من أي وقت مضى منذ الأزمة المالية، وفي استخدام هذا المصطلح تلطيف لواقع من الركود طويل الأمد، الذي أضحى سمة متنامية للاقتصاد العالمي. وفي ظل ما يشهده المناخ الحالي من تباطؤ في نمو السكان، يشكل تزايد عدم المساواة وتنامي الشكوك حول استيعاب المدخرات مشكلة مصيرية.

وكما كانت الحال في ثلاثينيات القرن الماضي، تعجز الاقتصادات المتقدمة عن تحقيق نمو مستدام بمعدلات صحية، وعلى أساس مالي سليم وسياسات صحيحة، وتتوقع الأسواق أن تخفق البنوك المركزية في تحقيق نسبة التضخم المستهدفة خلال العقد القادم، وهي اثنان في المئة، وحتى تحقيق ما يراه الناخبون نموا غير كاف في مستويات معيشة الطبقة المتوسطة اضطر العالم إلى إصدار سندات ديون بأسعار فائدة سلبية بقيمة 15 تريليون دولار أميركي، وإدارة عجز كبير غير مسبوق في الموازنة خلال زمن السِّلم، والسماح بتجاوزات مالية عديدة دون ضابط أو رابط.

رغم أن الأسواق الناشئة تمثل نسبة من الاقتصاد العالمي أكبر كثيراً من أي وقت مضى، وعلى الرغم من تمكنها من تجاوز الأزمة المالية بمرونة فاقت معظم التوقعات، لا يزال نجاحها معتمداً على الدول المتقدمة. دليل ذلك اعتماد مسارات نمو الأسواق الناشئة الأكثر نجاحاً على صادرات السلع المصنعة إلى الدول المتقدمة التي تشهد نمواً، لكن اقتران النمو المتباطئ بإعادة عمليات التصنيع إلى الداخل، وتزايد إجراءات الحماية يعنيان تزايد صعوبة هذا الطريق إلى النمو في السنوات المقبلة، كما كانت توقعات نمو الأسواق الناشئة طوال السنوات الأخيرة متفائلة أكثر مما ينبغي، وأخشى أن يستمر هذا. وأخص بالذكر هنا الصين التي ستواجه تحديات بنيوية عميقة في السنوات المقبلة.

لو حكمنا على تلك التحديات الاقتصادية، وفق معطياتها فقط، لاعتُبرت خطيرة، رغم أنها قد لا تكون أخطر من الصدمات النفطية أو التضخم الكبير أو الأزمات المالية التي وقعت في الماضي، لكن ما يجعل التحديات الحالية أسوأ هو تدهور القدرة على تقديم استجابات عقلانية في كل مكان تقريباً، ففي ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، تبنت الولايات المتحدة تصوراً رجعياً للصراع المستمر بين الدول القومية، لتقود تراجعاً عالمياً عن التكامل العالمي، وهي التي تكفلت قبل ذلك بالنظام الدولي الذي فاز بالحرب الباردة، وأتاحت للأسواق الناشئة فرصة التقارب والمضي نحو تحقيق مستويات معيشة تضاهي نظيراتها في الدول المتقدمة، والنتيجة الآن غياب تام للولايات المتحدة، سواء تعلق الأمر بالاتفاقيات التجارية أو التعاون بشأن قضايا مثل تغير المناخ، أو دعم حقوق الإنسان.

من المغري أن نلوم ترامب، الذي نادراً ما فوّت فرصة لارتكاب أخطاء فادحة، لكن ينبغي لنا أن نتذكر أنه حتى إعلان ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية التجارية للشراكة عبر المحيط الهادئ، كان عدد الديمقراطيين المعارضين للاتفاقية أكبر من عدد معارضيها بين الجمهوريين، وأن مرشح الديمقراطيين لانتخابات 2020 الرئاسية قد يهاجم سياسات ترامب تجاه الصين وينتقدها بأنها تصالحية أكثر مما ينبغي.

وهنا يمكن القول بأن الإجماع على الزعامة الأميركية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهى، عندما صرح الرئيس باراك أوباما بأن استراتيجيته الكبرى يمكن اختصارها في شعار «لا تفعل شيئاً أحمق».

الأهم من ذلك أن التحول نحو القومية الذي شهدناه في الولايات المتحدة ليس إلا مظهراً من مظاهر اتجاه عالمي شمل الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والحكومات الشعبوية في إيطاليا والمجر وبولندا والمكسيك والبرازيل والفلبين، وكذلك تنامي القومية العرقية في تركيا والهند والصين، فضلاً عن روسيا بعد 20 عاماً من حكم فلاديمير بوتين. وبات يهيمن على صنع القرار موجة من الغضب الشعبي والخيالات القومية، بدلاً من تأسيسه على المنطق والأسس الاقتصادية السليمة والتعاون الدولي.

ولن تعني زيادة المقاومة للأسواق المتكاملة عالمياً، وتقليص الاستثمار الأجنبي، وتقليل التعاون الدولي إلا مزيداً من تباطؤ النمو الاقتصادي وعدم الأمان والإحباط للطبقة العاملة، التي ستصطف بعد ذلك على الأرجح خلف أصحاب أكثر القصص بساطة وأكثر الوعود شمولاً، بدلاً من تأييد العودة للسياسات التعاونية الوسطية. ولن يفضي هذا إلا إلى تعميق الضائقة الاقتصادية.

لا تقتصر هذه القوى المحركة على الدول الديمقراطية فحسب، فلو كان الاقتصاد الروسي يفي بوعوده للروس، لقلّت حاجة بوتين المتزايدة إلى تركيز السلطة في يده، وليس من قبيل المصادفة أن يتزامن تباطؤ النمو وتزايد مخاطر عدم الاستقرار المالي في الصين مع حملات القمع ضد المعارضة والأقليات والأصوات المنادية بالقومية. وربما كان الاستعراض العسكري الضخم الذي صاحب الاحتفالات بالذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية -وهو استعراض فاق كثيراً في حجمه الاحتفال بالذكرى السنوية في السابق- انعكاساً للشعور بالقلق وعدم الأمان، أكثر من كونه تعبيراً عن الثقة.

على مستوى العالم، سيكون اختيار الناخبين الأميركيين في الانتخابات الرئاسية هو الأهم في عام 2020، وستكون الحاجة لتصحيح المسار أمسّ من أي وقت مضى في التاريخ الأميركي، إذ تحتاج الولايات المتحدة والعالم إلى رئيس جديد يعلي قيمة المجتمع على الصِّدام، سعياً لتحقيق رخاء شامل يعم الداخل والخارج. ويعني هذا التركيز على الاستثمارات في البنية التحتية والتعليم والابتكار، وجعل قانون الضرائب أكثر فعالية وتصاعدية، وتركيز الأعمال على الوفاء بحاجات المجتمع بدلاً من إشعال حرب بين العمال وأصحاب الأعمال، أو بين الطبقة المتوسطة والأغنياء.

يعني هذا أيضاً إنهاء الحرب التجارية الدائرة حالياً ضد أغلبية دول العالم، والتوقف عن استخدام التلون وتبديل المواقف لتحقيق مكسب، وإنهاء استغلال الدبلوماسية لتحقيق أهداف سياسية داخلية.

إن التركيز الصائب ينبغي أن يكون على استعادة التحالفات الأميركية، ومقاومة النزوع إلى سياسات الحماية، والانضمام إلى البلدان الأخرى في معالجة التحديات العالمية، مثل تغير المناخ والتهرب الضريبي وتنظيم التكنولوجيات الجديدة.

ربما كان إحداث تغيير في ما تمثله أميركا، والسياسات التي تتبعها، وأساليب ممارستها لنفوذها على بقية العالم أمراً ضرورياً لتحاشي حلقة سياسية / اقتصادية مفرغة.

ومن الواضح أن درجة التغيير التي شهدتها البيئة العالمية بعد انتخاب فرانكلين د. روزفلت إبان فترة الكساد الكبير، وانتخاب رونالد ريغان خلال فترة من الشك الذاتي سادت الغرب، وانتخاب أوباما بعد حرب العراق وفي خضم أزمة مالية- تشير كلها إلى أن الانتخابات الأميركية كانت لها توابع عميقة على النظام العالمي.

إن الناس يراقبون ويحاكون أميركا منارة الأمل، وسوف يصدق هذا، سواء بالإيجاب أو السلب، في عام 2020 أيضاً.

* وزير الخزانة الأميركية (1999-2001)، ومدير المجلس الاقتصادي الوطني الأميركي (2009-2010)، ورئيس جامعة هارفارد (2001-2006)، التي يعمل بها أستاذاً حالياً.

«لورنس هـ. سامرز»

back to top