أفكار إليزابيث وارين الجريئة لا تكفي
لكي تكون أجندة السياسة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين فعّالة، من الأهمية بمكان أن تعمل على تشكيل اتجاه التطور التكنولوجي ونشر التكنولوجيا، واستعادة قدرة العمال التفاوضية، ومن حسن الحظ أن كلا الهدفين يكمل الآخر.
إذا استبعدنا سوق الأوراق المالية (البورصة) ومعدل البطالة المنخفض، فسيتبين لنا أن الاقتصاد الأميركي متعطل، فلا يزال نمو الإنتاجية، المقياس الرئيس لصحة الاقتصاد، منخفضا إلى حد غير مسبوق تاريخيا، كما أن الأجور المتوسطة، المؤشر لمستويات معيشة الطبقة الوسطى، لم يسجل أي نمو إلا بصعوبة خلال أربعة عقود من الزمن، هذا فضلا عن ارتفاع مستويات التفاوت بين الناس، مع تركز قوة السوق على نحو متزايد في أيدي قِلة من الشركات، فقد اعتاد الأميركيون النظر إلى أوروبا بتنازل باعتبارها أرض الشركات غير التنافسية التي تحميها الحكومات، والآن تبدو الأسواق الأوروبية في أغلب الصناعات أكثر تنافسية من نظيراتها في الولايات المتحدة.كان شعور الطبقة السياسية في أميركا بالرضا عن الذات سببا في تفاقم هذه المشاكل، فلسنوات كان نهجان مبتذلان يهيمنان على مناقشات السياسة الاقتصادية، فقد تشبث اليمين باعتقاده في "تقاطر النمو إلى الأسفل"، والذي يترجم إلى القيام بكل ما يعود بالنفع على الأعمال، لأن ربحية الشركات من شأنها أن تعمل على تعزيز الاستثمار، وتشغيل العمالة، والأجور، ولكن تبين أن خدمة مصالح الشركات الراسخة وتجنب الضوابط التنظيمية لا يشجع المنافسة أو يحفز ذلك النوع من الإبداع اللازم لدفع نمو الإنتاجية، فربما يصب الانحياز إلى الكبار على حساب العمال والمستهلكين في مصلحة المساهمين، لكنه لا يوفر النمو الصحي للأجور للأميركيين العاديين.من ناحية أخرى، ركز اليسار في المقام الأول على إعادة التوزيع، وتمسك مؤخرا بمقترحات تقضي بفرض ضريبة على الثروة لتمويل تحويلات أكثر سخاء أو ربما حتى دخل أساسي شامل، ولا شك أن الاقتصاد الأميركي يحتاج إلى المزيد من الاستثمار في البنية الأساسية، وشبكة أمان اجتماعي أفضل، وتدابير أكثر قوة في مكافحة الفقر. لقد بلغت الضرائب على الأثرياء أدنى مستوياتها تاريخيا في وقت حيث أصبحت الولايات المتحدة في احتياج شديد إلى المزيد من الإيرادات والإنفاق من جانب الحكومة الفدرالية، ولكن تاريخيا لم يحقق أي مجتمع الرخاء المشترك على نطاق واسع بالاستعانة بإعادة التوزيع وحدها.
بل كان الرخاء المشترك يستند عادة إلى ثلاث ركائز: الركيزة الأولى هي إعادة التوزيع المالي، والتي بموجبها تستخدم الضرائب المفروضة على الأثرياء لتوفير الخدمات العامة والتحويلات للمحتاجين. وتتمثل الركيزة الثانية في مدد وفير من الوظائف بأجور مرتفعة نسبيا ودرجة ما من الاستقرار، والذي يعتمد بدوره على وجود قوانين تحمي العمال "وإلا فإن أرباب العمل سيتحولون نحو وظائف أقل جودة وأقل أجرا".أما الركيزة الثالثة فتتمثل في نمو الإنتاجية المطرد، والذي يشكل ضرورة أساسية لتعزيز نمو الأجور عبر مختلف القطاعات السكانية، ويتطلب نمو الإنتاجية المعزز للأجور شكلا محددا من التغير التكنولوجي: ذلك النوع الذي لا يستهدف بشكل ضيق استبعاد العمال من عملية الإنتاج، لكنه يتطلب أيضا ضوابط تنظيمية لمنع أي شركة أو قِلة من الشركات من اكتساب هيمنة مفرطة على صناعة ما أو على الاقتصاد ككل.حتى الآن، كانت أجندة "الوظائف الجيدة" غائبة إلى حد كبير عن المناقشات السياسية، ولكن في خطاب حملتها مؤخرا، كانت السيناتورة إليزابيث وارين من ولاية ماساتشوستس، وواحدة من المنافسين البارزين على الترشح عن الحزب الديمقراطي للرئاسة، حريصة على تسديد كل الخانات الصحيحة. فقد أكدت وارين، التي ابتعدت بعض الشيء عن تركيزها على فرض الضرائب على أصحاب الثراء الفاحش وإعادة التوزيع، على أهمية تحقيق النمو العريض القاعدة، بل إنها ذهبت حتى إلى تحديد بعض المشاكل البنيوية التي تكمن وراء ركود الإنتاجية في الولايات المتحدة.ويأمل المرء أن يمثل هذا الخطاب نقطة تحول في حملة وارين، وتوجهات الديمقراطيين في عموم الأمر، ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فإن الديمقراطيين يحتاجون إلى المضي قدما في معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراء الضائقة الاقتصادية في الولايات المتحدة. كانت وارين على حق عندما أعربت عن قلقها إزاء الفساد وتركز الأسواق (وخاصة في صناعة التكنولوجيا). وهي على حق في الدفاع عن توفير سبل حماية أقوى للعمال وإعطائهم صوتا أقوى في إدارة الشركات، لكنها لم تقدم حتى الآن سوى حل جزئي.لنتخيل هنا أن الحد الأدنى للأجور الفدرالية ارتفع إلى 18 دولارا للساعة، وأن العمال مُنِحوا مقاعد في مجالس إدارة الشركات، وستظل مشكلة الإنتاجية الأساسية باقية، ولكن الفارق هنا هو أن العديد من الشركات ستتجه إلى أتمتة (التشغيل الآلي) المزيد من المهام وتقليص قوة العمل، ولهذا السبب، لابد أن تتضمن أي استراتيجية لتغيير المسار التكنولوجي للاقتصاد توفير تدابير الحماية للعمال. انخفضت حصة العمالة في الدخل الوطني بشكل حاد على مدار العقدين الأخيرين لسببين: إقبال الشركات على إحلال الآلات على نطاق واسع محل العمال، وخسارة العمال المتزامنة لقوة المساومة والتفاوض. تؤدي الأتمتة بطبيعة الحال إلى نمو أسرع للإنتاجية، ولكن ليس عندما يكون السعي إليها مفرطاً، أي عندما تقوم الشركات بأتمتة العمليات التي لا يزال من الممكن أن يقوم بها البشر بشكل أكثر إنتاجية. عندما تركز الشركات بشكل قصري على الأتمتة، فإنها تخاطر بخسارة المكاسب التي كانت ستتأتى من زيادة إنتاجية عمالها.السؤال إذاً هو لماذا نشأ مثل هذا الاتجاه القوي نحو الأتمتة في الاقتصاد الأميركي. بادئ ذي بدء، أصبحت السياسات الضريبية الأميركية موجهة نحو دعم الاستثمارات الرأسمالية، وهو ما أوجد سيناريوهات ضارة تستطيع الشركات من خلالها الاستفادة فعليا من الآلات الأقل إنتاجية، لأن الرواتب خاضعة للضريبة في حين يلقى تبني الروبوتات الدعم عن طريق أشكال عديدة من الإعفاءات الضريبية وعلاوات الاستهلاك المتسارع، فضلا عن ذلك، يعمل نموذج أعمال الشركات السائد الآن، وخاصة نموذج شركات التكنولوجيا الضخمة، على رسم مسار التطور التكنولوجي للاقتصاد بالكامل. وكلما ازداد تركيز الشركات الأميركية على التشغيل الآلي، تقلص الاستثمار في التكنولوجيات التي يمكن استخدامها لتحسين إنتاجية العمال.من ناحية أخرى، انخفض الدعم العام لمشاريع البحث والتطوير الأساسية بشكل كبير في العقود الأخيرة. تاريخيا، أدى التمويل الحكومي دورا بالغ الأهمية في تحديد ليس كَم الأبحاث فقط، بل أيضا اتجاهها، والواقع أن العديد من الابتكارات الأعظم أهمية في فترة ما بعد الحرب- من أجهزة الكمبيوتر المبكرة والمضادات الحيوية إلى أجهزة الاستشعار وشبكة الإنترنت- كانت مدفوعة بطلب الحكومة وتمكنت من الاستمرار بفضل الدعم الحكومي السخي، وقد خلقت هذه الإبداعات الخارقة فرصا إنتاجية جديدة للعمال، وعملت على تغذية نمو الوظائف الجيدة في الاقتصاد، ومع تضاؤل التمويل العام الآن، أصبحت الأبحاث الجديدة متركزة بشكل متزايد حول النماذج القائمة واتبعت المسار الأقل وعورة تجاه التشغيل الآلي الذي يحل محل العمالة البشرية.لكي تكون أجندة السياسة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين فعّالة، فمن الأهمية بمكان أن تعمل على تشكيل اتجاه التطور التكنولوجي ونشر التكنولوجيا، واستعادة قدرة العمال التفاوضية، ومن حسن الحظ أن كلا الهدفين يكمل الآخر، وإن مزاولة العمل كالمعتاد، مع السماح للشركات الضخمة بتحديد الأجندة، لن يقود إلا إلى المزيد من التشغيل الآلي، في حين أن إعطاء صوت أكبر للعمال، مقترنا باستراتيجية أكثر ديمقراطية في التعامل مع الإبداع والابتكار، من شأنه أن يضع الولايات المتحدة في موقف يسمح لها بزيادة الإنتاجية، وتوليد فرص أفضل لغالبية مواطنيها في ذات الوقت.ولا نملك إلا أن نأمل أن يكون تغير اتجاه تركيز وارين خطوة أولى في هذا الاتجاه.* دارون عاصم أوغلو* أستاذ علوم الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو المؤلف المشارك مع جيمس روبنسون لكتاب "الممر الضيق: الدول، والمجتمعات، ومصير الحرية".«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»
التمويل الحكومي أدى دورا بالغ الأهمية في تحديد كَم الأبحاث واتجاهها أيضا