أوروبا والاختيارات الصعبة في 2020

نشر في 22-12-2019
آخر تحديث 22-12-2019 | 00:35
 بروجيكت سنديكيت للمرة الأولى منذ عام 1957، تجد أوروبا ذاتها في وضع؛ تبدي فيه ثلاث قوى كبرى- الولايات المتحدة، والصين، وروسيا- الحرص على إضعافها، وربما تفرض هذه القوى الضغوط على الاتحاد الأوروبي بطرق شديدة التباين، لكنها تشترك في عدائها الحقيقي لنموذج الحكم المعمول به في الاتحاد.

يستند النموذج الأوروبي في نهاية المطاف إلى مبدأ السيادة المشتركة بين الدول في مجالات مصيرية مثل معايير السوق والتجارة. تتناقض هذه الفكرة الليبرالية مع النظرة الأميركية والصينية والروسية للسيادة، والتي تضع سلطة الدول فوق القواعد ومعايير السلوك العالمية. إن السيادة المشتركة غاية لا تُدرَك إلا بين دول ليبرالية؛ أما السيادة الخالِصة فهي حِكر على الشعبويين والمستبدين.

لكن معاداة الاتحاد الأوروبي اليوم تدين أيضاً بعض الشيء لثِقَل أوروبا الاقتصادي في العالَم، والذي لا يمكن إنكاره، ففي غياب الاتحاد، ربما كانت الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب لتنجح بالفعل في إجبار ألمانيا وفرنسا على الاستسلام لمطالبها فيما يتصل بالتجارة، ولو كانت فرنسا بمفردها، فإنها ما كانت لتتمكن من رفض المفاوضات الثنائية مع الولايات المتحدة بشأن القضايا الزراعية.

إن الاتحاد الأوروبي، بوصفه «واجهة مشتركة»، يعمل كأداة لمضاعفة قوة الأجزاء المكونة له في مختلف المجالات، حيث يجري تقاسم السيادة.

ولا تختلف وجهة نظر الصين إلى أوروبا عن نظرة ترامب، ففي حين استفاد الصينيون من السوق الأوروبية الموحدة من خلال الحصول على موطئ قدم في دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية، فإنهم لا يريدون على الإطلاق أن يتقاسم الأوروبيون السيادة في السيطرة على الاستثمار الأجنبي، من خلال آلية الفرز الجديدة التي أطلقت في أبريل على سبيل المثال. كانت الصين تعمل على رعاية التبعية المالية في البلقان، وهي تدرك تمام الإدراك أن هذه البلدان ستخضع لمتطلبات أقوى فيما يتصل بالشفافية إذا التحقت بعضوية الاتحاد الأوروبي.

تفضل الصين كثيراً النموذج الذي تقوم عليه مبادرة الحزام والطريق، مسعاها الضخم المتمثل في تشييد بنية أساسية للتجارة والنقل تربطها بإفريقيا وأوروبا. والطريقة التي تمول بها الصين والدول المشاركة مشاريع مبادرة الحزام والطريق شديدة الغموض. الواقع أن أكثر من نصف كل القروض الصينية المقدمة للبلدان النامية ليست معلنة.

روسيا أيضاً تمقت الوحدة الأوروبية، فرغم أن بعض دول الاتحاد الأوروبي تعارض استمرار العقوبات ضد موسكو، فإنها جميعاً ظلت تحترمها، غير أن أوروبا ليست كتلة متجانسة عندما يتعلق الأمر بروسيا. فرغم أهداف استقلال الطاقة في أوروبا، تتعاون ألمانيا مع روسيا في بناء خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2. ولفترة من الوقت، كانت ألمانيا تحول أيضاً دون انتهاج الاتحاد الأوروبي سياسة أكثر صرامة في التعامل مع الصين، بسبب اعتماد صناعة السيارات الألمانية على السوق الصيني. لكن موقف ألمانيا تغير منذ عام 2017، عندما انتبه قادتها أخيراً إلى المخاطر التي يفرضها استحواذ الصين على مؤسسات ألمانية في قطاعات صناعية حساسة.

وعلى هذا، فإن الادعاء المتكرر بأن أوروبا غير قادرة على الاضطلاع بدور عالمي غير صحيح ببساطة، فمقارنة بدولة متقدمة أكثر عزلة مثل اليابان، تُعَد أوروبا كياناً قوياً حقاً. ففي حين كانت اليابان تحت رحمة التعريفات التي فرضتها الولايات المتحدة على الصلب المستورد، رَد الاتحاد الأوروبي بالمثل، وفي حين لم يكن لدى اليابان حيز كبير للاختيار غير قبول اتفاق تجاري ثنائي مع الولايات المتحدة (من حيث المبدأ)، فإن أوروبا اعترضت سبيل المحاولات التي بذلتها إدارة ترامب لإصلاح اتفاق التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي لا يزال بعيداً عن تحقيق الاستقلال الاستراتيجي والاقتصادي، لكن هذا لا يعني أنه غير قادر على القيام بذلك؛ فأوروبا تمتلك العديد من الأصول التي تجعلها قادرة على الدفاع عن تعددية الأطراف والمعايير الدولية، ونظراً لملكاتها الإبداعية وسوقها الضخم، فإنها تستطيع أن تضطلع بدور بالغ الأهمية في وضع معايير التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، وكلا الأمرين يقع في قلب المعركة الاقتصادية العالمية اليوم. وخشية أن ننسى، فإن أوروبا هي التي اتخذت الخطوة الأولى في تنظيم اقتصاد المنصات، من خلال القانون العام لحماية البيانات، الذي وضع بالفعل معياراً عالمياً جديداً.

لكن أوروبا لا تزال في احتياج إلى تطوير قدراتها النقدية والصناعية والعسكرية. ويتعين على الاتحاد الأوروبي أن يعكف على توسيع الدور الدولي الذي تلعبه «اليورو» حتى يتسنى لها العمل كأصل آمن، وعملة معيارية للتجارة عبر الحدود. وسوف يتطلب تدويل عملة اليورو سوقاً رأسمالياً عميقاً، أشبه بسوق الولايات المتحدة، وهناك بالفعل إجماع بين دول منطقة اليورو لمصلحة تبني هذا الاتجاه.

يُعَد ترسيخ مكانة اليورو كأصل آمن ـــ بمعنى جعل سندات اليورو مكافئة لسندات الخزانة الأميركية ـــ أمراً أكثر إثارة للجدال، إذ تعارض ألمانيا بشدة أي اقتراح ينطوي على تقاسم المخاطر عبر منطقة اليورو، ولكن إذا لم يثق المستثمرون الأجانب بحرص البنك المركزي الأوروبي على الدفاع عن قيمة اليورو في أي دولة بمنطقة اليورو، فلن يروا في العملة الموحدة أبداً منافساً للدولار.

وفيما يتعلق بالنقطة الثانية، تحتاج أوروبا إلى إنشاء «صروح» صناعية قوية. وسوف يتطلب هذا تعميق السوق الداخلي، الذي لا يزال مجزّأً جداً، فيما يتعلق بالخدمات. وقد يتطلب الأمر أيضاً إعادة النظر في قواعد المنافسة المعمول بها في الاتحاد الأوروبي.

وفي أعقاب القرار الذي اتخذته سلطات مكافحة الاحتكار في الاتحاد الأوروبي بمنع عدد من عمليات الاندماج الكبرى هذا العام، وخصوصاً بين شركتي ألستون وسيمنز، نشأ جدال متزايد الحدة داخل أوروبا حول كيفية تحسين سياسات المنافسة.

أخيراً، تحتاج أوروبا بشدة إلى بناء قدرتها العسكرية، لإضفاء المصداقية على ممارستها للقوة التجارية والقوة الناعمة. على سبيل المثال، بإنشاء قوة حماية أوروبية جديدة في مضيق هرمز؛ ترسل أوروبا إشارة قوية إلى كل من الولايات المتحدة وإيران مفادها أنها قادرة على الدفاع عن مصالحها دون أن تضطر إلى الانحياز إلى أي جانب ضد حلفائها. إذ تشكل القدرة على إبراز القوة مصدراً أساسياً للنفوذ العالمي.

إن أوروبا لا تحتاج إلى «استراتيجية كبرى»، وهو المصطلح المتغطرس الذي لا يعبر عن القيود المحلية والعالمية، بل تحتاج بدلاً من ذلك إلى العزيمة والإرادة السياسية لتطوير أصول استراتيجية تجارية ودبلوماسية وعسكرية جديدة. وفي عالم تسوده الخلافات وقعقعة السيوف واستعراض العضلات، يصبح التواضع الفعّال أفضل من الطموح الفارغ.

* زكي العايدي

* أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top