تستمر التكنولوجيا الرقمية في إحداث تغيير في قسم كبير من الاقتصاد العالمي، حيث أدى الجمع بين تكنولوجيا البيانات الضخمة، وزيادة قوة الحوسبة، والأنظمة المبنية على الحوسبة السحابية إلى إنتاج خدمات جديدة وإحداث تحول سريع في الصناعات الموجودة بالفعل، كما قدمت المنصات التي تربط مجموعات مختلفة من المستخدمين خدمات البحث عبر الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية إلى المستهلكين من جميع أنحاء العالم.أصبحت بعض هذه المنصات بمثابة «حراس البوابات الرقمية» للخدمات التي يقدمونها، نظراً لاتساع نطاقها وكبر حجمها ونموها الهائل، مما أتاح لها إمكانية الوصول بشكل حصري إلى بعض مجموعات المستخدمين، والمكاسب الناتجة عن مثل هذه الممارسات واضحة: فأكبر خمس شركات في العالم من حيث القيمة السوقية- مايكروسوفت، وأمازون، وأبل، وألفابيت (غوغل)، وفيسبوك- كلها شركات رقمية.
يكلف قانون المنافسة سلطات مكافحة الاحتكار بمهمة إبقاء الأسواق مفتوحة أمام المنافسة، حيث يسعى إلى تحجيم السلطة الاقتصادية للشركات الفردية لضمان حرية اختيار المستهلكين، فإذا عملت شركة مهيمنة في المجال الرقمي بمثابة جهة متحكمة في التكنولوجيا الرقمية وأساءت استخدام سلطتها، فينبغي أن تتدخل هيئات المنافسة لضمان عدالة التنافس وحماية المستهلكين.ولكن كيف يمكن لهذه الهيئات أن تؤدي وظيفتها على النحو اللائق في عالم تتقدم فيه عملية التحول الرقمي بسرعة كبيرة؟ أولاً، نحن في احتياج إلى فهم كيفية عمل العالم الرقمي. في الواقع، يزداد وضوح الروابط بين تكنولوجيا البيانات الضخمة، والخصوصية، والمنافسة يوماً بعد يوم، ونظراً لأن جمع البيانات ومعالجتها واستثمارها من أساسيات الاقتصاد الرقمي، فإن نماذج الأعمال الجديدة تعتمد بقوة على البيانات، حيث تؤدي البيانات الشخصية دوراً رئيساً في تقديم خدمات مثل محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي أو تلك التي تقدمها أجهزة «المنازل الذكية». وعلى هذا الأساس، فإن قيمتها الاقتصادية والتنافسية عالية.لكن لا يوجد شيء بدون مقابل، حتى في العصر الرقمي، حيث تعد إمكانية الوصول إلى البيانات الشخصية أمراً ذا قيمة عالية بالنسبة إلى العديد من الشركات، وهي أحد العوامل الرئيسة التي تسهم في رفع قوة السوق في القطاعات الاقتصادية التي تعتمد على البيانات، كما أصبحت الطريقة التي تعمل الشركات من خلالها على جمع ومعالجة البيانات الشخصية مرتبطة بشكل متزايد بقدرتها التنافسية وأدائها في السوق؛ لذلك فمن الضروري أن تُقيِّم هيئات المنافسة عمليات معالجة البيانات التي تجريها الشركات المهيمنة في هذه الأسواق. وفي هذا السياق، من المهم بشكل خاص الأخذ في الاعتبار أوجه التداخل المحتملة مع المجالات السياسية والقانونية الأخرى، وخاصة حماية المستهلك وقانون الخصوصية.في بداية هذا العام، فرضت هيئة المنافسة الألمانية (المكتب الألماني لاتحاد المنتجين Bundeskartellamt) قيوداً بالغة الشدة على كيفية معالجة «فيسبوك» بيانات المستخدم الألماني، ووفقاً لشروط وأحكام «فيسبوك»، يتطلب استخدام شبكة التواصل الاجتماعي موافقة المستخدم على السماح للشركة بجمع بياناته حتى خارج موقع فيسبوك، كما يمكن إسناد بيانات من أنشطة المستخدم في أي مكان على الإنترنت، أو من خلال تطبيقات الهواتف الذكية إلى ملف تعريفه الداخلي لدى الشركة. وتساهم إمكانية وصول «فيسبوك» إلى مصادر البيانات هذه بشكل كبير في القوة السوقية للشركة.كان هدف مكتب اتحاد المنتجين هو ضمان أن «فيسبوك» لم يعد بإمكانها إجبار مستخدميها على الموافقة على جمع وإسناد البيانات من خارجها، لكن «فيسبوك» استأنفت ضد قرارنا، وعلّقت المحكمة الإقليمية العليا في دوسلدورف تطبيق القواعد الجديدة في إطار تقييم أولي، مستندة إلى وجهة نظر مختلفة فيما يتعلق بالقضايا القانونية الرئيسة. ومع ذلك، نظراً لأهمية ضمان المنافسة في الاقتصاد الرقمي المستقبلي، التمس المجلس الاتحادي الألماني مزيداً من التوضيح من محكمة العدل الألمانية.في السنوات الأخيرة، تناول مكتب اتحاد المنتجين العديد من القضايا الرقمية الأخرى، من عمليات الدمج إلى الاتفاقيات الرأسية، والحق أن هذه القضايا زادت من وعينا بنماذج الأعمال الجديدة والناشئة، وبمجالات التعاون المحتملة. إحدى القضايا التي نركز عليها هي دور المنصات الهجينة في التجارة الإلكترونية، حيث تتيح منصات مثل «أمازون» لبائعين خارجيين إمكانية الوصول إلى عملاء محتملين وتقديم منتجاتهم وخدماتهم، لكن هذه المنصات تقدم أيضاً منتجاتها وخدماتها الخاصة، مما يعني أنها توفر بنيتها الأساسية لأطراف ثالثة هي أيضاً منافسة لها، وبالنظر إلى تزايد القوة السوقية لبعض هذه المنصات الهجينة، فإن احتمالات حدوث تضارب في المصالح وظهور ممارسات تجارية تعسفية تبدو واضحة.لحسن الحظ، عمل مكتب اتحاد المنتجين مؤخراً على تأمين تحسينات واسعة النطاق لمصلحة البائعين النشطين في أسواق أمازون بجميع أنحاء العالم، واستجابة لمخاوفنا المتعلقة بالمنافسة، عدلت «أمازون» شروطها لمعالجة العديد من الشكاوى التي تلقيناها من البائعين، ومن بين القضايا التي تمت معالجتها الإعفاء الأحادي الجانب لأمازون من المسؤولية، وعمليات إنهاء وحظر حسابات البائعين، ومحكمة الاختصاص في حالة النزاع، وطريقة معالجة أمازون لمعلومات المنتجات. في الواقع، كانت تعديلات «أمازون» كافية للسماح لنا بإنهاء إجراءاتنا ضد الشركة، ولكن في قضية مماثلة، تحقق المفوضية الأوروبية الآن في كيفية جمع واستخدام بيانات المعاملات في «أمازون».كما شاهدنا، يثير الاقتصاد الرقمي العديد من القضايا الجديدة فيما يتعلق بقانون المنافسة ومجالات السياسة المرتبطة به. ومن جانبنا، نواجه هذه التحديات بخلفية اقتصادية وقانونية قوية، كما هو موضح في تقارير مثل «قانون المنافسة والبيانات»، الذي شاركنا في إعداده مع هيئة المنافسة الفرنسية (L›Autorité de la Concurrence). ومن خلال الخبرة التي اكتسبناها من حالات مثل تلك التي سبق ذكرها، نحاول تقديم مؤشرات للشركات حول السلوكيات المقبولة وغير المقبولة بموجب قانون المنافسة.أضف إلى ذلك أنه في عام 2017، عدل البوندستاغ قانون المنافسة الألماني لتوضيح العديد من الأسئلة المهمة فيما يتعلق بالاقتصاد الرقمي. وفي خريف هذا العام، اقترحت الوزارة الاتحادية الألمانية للشؤون الاقتصادية والطاقة تعديلات إضافية من شأنها أن تسهل مواجهة الانتهاكات المحتملة من قبل المنصات الرقمية المهيمنة.لاشك في أن قضايا رفاهية المستهلك، وحرية اختياره، وحرية المنافسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً، لذلك سيواصل المكتب الألماني لاتحاد المنتجين متابعة التطورات في الاقتصاد الرقمي وإنفاذ قانون المنافسة، حتى نتمكن من إبقاء هذه الأسواق مفتوحة وخالية من أوجه سوء الاستغلال من قبل الجهات المتحكمة الجديدة.* أندرياس موندت* رئيس المكتب الألماني لاتحاد المنتجين Bundeskartellamt، هيئة تنظيم المنافسة في ألمانيا.«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
حماية المنافسة في عالم رقمي
24-12-2019