تعيش الولايات المتحدة الآن فترة شديدة التوتر في تاريخها، فقد أعاد دونالد ترامب تشكيل الرئاسة الأميركية، وكان سلوكه المحطم لكل القواعد بمثابة اختبار عميق على أكثر من نحو لدستور الولايات المتحدة، فقد أظهر نقاط الضعف الدستورية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمعايير غير قابلة للتطبيق من الناحية القانونية من احترام للواقع القائم على الحقائق، واتخاذ القرار بشكل منظم، واستقلال عمليات التحقيق والادعاء.

كما أثار صعود ترامب إلى السلطة تساؤلات حول بعض المواد الأشد رسوخاً في الدستور، فسلط فوزه في عام 2016 الضوء على المخاطر التي يفرضها المجمع الانتخابي في مواجهة الحقائق الديموغرافية المتغيرة، والآن تختبر رئاسته مدى صلاحية عملية العزل في التعامل مع زعيم الدهماء الذي استولى على آلية حزب سياسي بأكمله ويسيطر على أحد مجلسي الكونغرس.

Ad

زعم بعض المراقبين أن رئاسة ترامب لا تمثل أكثر من مجرد «ومضة» في التاريخ الأميركي، وتعتقد القاضية روث بادر غينسبورغ أن المؤرخين سينظرون إلى لحظتنا الحالية على أنها ليست أكثر من «شذوذ». واقترح آخرون تصورات مماثلة، واصفين مسألة تأثير ترامب في الأمد البعيد على السياسية الأميركية والمجتمع الأميركي على أنها مفتوحة للنقاش، فتزعم هذه الحجة أن قوس التاريخ طويل، وأن رئاسة ترامب ستبدو في مرآة الرؤية الخلفية أصغر كثيراً مما تبدو عليه اليوم.

أشك في ذلك، ففي اعتقادي أننا نعيش لحظة تحول في الحياة الأميركية، فقد أعاد ترامب تشكيل محتويات السلطة الدستورية، وبطريقة لن يقترب حتى من فهمها بلا أدنى شك، وحتى لو ظلت الطبيعة الدقيقة لعملية إعادة التشكيل هذه غير محددة، فإن دستور الولايات المتحدة لن يعود كما كان أبداً.

هذا ليس مجرد تعليق على الضرر الذي قد يحدثه ترامب، أو الأمل الذي قد يكشف عنه، بل هو بالأحرى شهادة على الطبيعة العضوية للوثيقة التأسيسية لأميركا والمصفوفة الدستورية التي تؤطرها. إن الدستور ليس «شيئاً» ثابتاً بقدر ما يرمز لعملية من الخلق وإعادة الخلق، وهو مشروع بين الأجيال من الإجهاد والنمو، والواقع أن ترامب، دون أن يُـقَدِّر أو يهتم ولو من بعيد بتحليل ما كان يقوم به، تعامل مع هذه العملية الخـلّاقة بطرق تحويلية، وسيتردد صدى التأثيرات عبر النسيج القانوني والاجتماعي لأميركا لأجيال.

إطار متطور

وعلى هذا، فإن رئاسة ترامب تذكرنا بحقيقة أساسية حول طبيعة النظام الدستوري الأميركي. كان دستورنا دائماً مؤسسة تشاركية نشطة، وخطوطه الظاهرة فقط هي الثابتة؛ أما البقية فتوفر موضعاً للمناقشات الصعبة المفعمة بالحياة، والتي تميز جمهوريتنا النابضة بالحياة، وقد دفعت هذه الرئاسة المشاركة الوطنية التشكيلية مع هذه المناقشات، وستحدد تصرفات ترامب والخطوات المتخذة رداً عليها ما يعنيه الدستور للجيل القادم إلى حد كبير، وهذه ليست مجرد نتيجة لنجاحه في وضع القضاة في مناصب المحاكم الفدرالية في البلاد، بما في ذلك المحكمة العليا، إذ إن إرث ترامب الدستوري سيعكس أيضاً تأثيره على التفاعلات غير الرسمية البسيطة بين المواطنين العاديين وقادة الرأي- وعلى الافتراضات المسبقة كتلك التي تدعم فكرة سيادة القانون ذاتها- التي تؤثر في الأحكام القضائية الرسمية، والتي تفعل قدر ما تفعله الأحكام القضائية الرسمية لتحديد المعنى الحي للدستور.

دفعت هذه اللحظة التاريخية عملية التحول الدستوري والإبداع إلى مركز الصدارة في الحياة السياسية الأميركية، ويتفق أغلب الأميركيين على أن مؤسساتنا الوطنية لا تخدمنا على النحو اللائق حالياً. وعلى الرغم من علامات تدل على الإبداع على المستوى المحلي، فإن الهيئة التشريعية الوطنية تتسم باختلال وظيفي تام، فنظامنا القضائي مسيّس بكل وضوح، وهذا الرئيس ينتحل لنفسه قدراً متزايداً من السلطة، التي يمارسها بقدر من الاستهتار والتهتك يكاد يكون بلا ضابط أو رابط، حتى أن بعض المراقبين يشعرون بالتشكك المتزايد في دستورنا ككل، ويتساءلون ما إذا كان التغيير الجوهري هو الحل الوحيد. ومن نواح كثيرة، على حد تعبير دانييل آلين من جامعة هارفارد، «نحن نعيش الآن لحظة وثائق الكونفدرالية».

نتيجة لهذا، لم تعد عملية إعادة تفسير الدستور (أو التعديل) مهمة مثالية وهمية على هامش خطابنا الوطني، بل أصبح هذا التحول بين السمات المهيمنة في محادثاتنا العامة، وقد اقترح مرشحون سياسيون رئيسيون تغيير بنية المحكمة العليا، كما دخل تصويت جولة الإعادة المباشرة إلى مفردات الخطاب الوطني، وأصبحت نافذة الخطاب العام للتغيير الدستوري مفتوحة على مصراعيها.

ربما ساعدت الضغوط التي يتعرض لها نظامنا في الدفع إلى التيار السائد بظمأ حقيقي إلى نبذ الأسس الاجتماعية والسياسية الجوهرية التي يجدها كثيرون غير عادلة، أو ربما كان هذا الظمأ يشق طريقه بالفعل إلى التيار الرئيس، وربما كانت هذه الرئاسة الفوضوية متزامنة من قبيل المصادفة فحسب مع صعوده، وفي كل الأحوال يبدو أن مجتمعنا أصبح على حافة لحظة من التغير الاجتماعي الجوهري: أمة على حافة الهاوية، على الرغم كل ما لا نعرف عنه أي شيء بعد.

وعلى هذا فإننا نعيش لحظة من الضغوط الدستورية الشديدة، والرهانات عالية بدرجة يكاد تصورها يكون غير ممكن، ويتوقف ما قد يحدث بعد ذلك إلى حد كبير، ولكن ليس بالكامل، على ما نصوغه لأنفسنا من هذه الصدمة الوطنية التي جلبناها على أنفسنا، وهي الملاحظة التي تستلزم بطبيعة الحال أن نعكف على تحديد من «نكون»، وما يجب أن نكون أو لا نكون، ولا شك أن الكيفية التي قد ينتهي إليها التحقيق الجاري في مسألة العزل ستمثل مدخلاً أساسياً في هذه المعادلة.

المستقبل غير مكتوب

تماماً كما يبدو من المؤكد أن هذه الرئاسة ستغير مسار أمتنا، فمن غير المؤكد أيضاً كيف ستكون نتيجة هذا التغيير، وليس هذا هو النوع من عدم اليقين الذي يستطيع أي عالم حكيم بالقدر الكافي أن يزيله بمجرد دراسة القدر الكافي من البيانات وتطبيق خوارزميات متطورة على النحو اللائق، ولا يشبه هذا حالة عدم اليقين نتيجة زلزال قادم بدرجة 9.0 ريختر، والذي قد يكون معروفاً من حيث المبدأ، حتى لو لم نتمكن من إجراء الحسابات المطلوبة. إنها شكوك مغروسة في صُلب فكرة الإرادة الحرة. والمستقبل لنا، نخلقه ونصوغه كما نشاء.

ربما تدشن هذه اللحظة العودة إلى المبادئ الأولى، ولادة جديدة للوعود الأساسية التي حملها الدستور الأميركي، وربما أصبحت الفرصة سانحة الآن لإعادة اكتشاف القيم النبيلة في الدستور ومد وعودها إلى نطاقات أبعد من أي وقت مضى، أو ربما تكون هذه اللحظة قوّضت نظامنا الدستوري تماماً، مما يمثل ذروة عصر من الاختلال الوظيفي، نقطة الانعطاف في تحول وطني نحو الخراب، وعلى النقيض من المستقبل الذي وصفه ذات يوم قاضي المحكمة العليا فيلكس فرانكفورتر بأنه مخفي في رحم الزمن، فإن مستقبل رحلتنا الدستورية مخفي لأننا لم نختره بعد.

بين الأمور التي آمل أن تتحقق بفضل هذه الفترة الوطنية المؤلمة الدخول في مواجهة أكثر صدقاً مع ماضينا المزعج جداً، والاعتراف الكامل بأن الدروس التي يجب على دستورنا أن يعلمنا إياها لابد أن تكون موضوعاً للمنازعة والجدال لا الحساب، وإذا حدث هذا فإن مواجهتنا الحالية مع الطغيان لابد أن تقوينا في مواجهتنا القادمة مع الاستبداد الحقيقي، وفي القيام بهذا سنصبح أفضل تجهيزاً واستعداداً لتحمل العواصف التي ستستمر في ضرب جمهوريتنا.

في مناسبة شهيرة، وَصَف قاضي المحكمة العليا في الولايات المتحدة، روبرت جاكسون، بـ«النجم الثابت في كوكبتنا الدستورية»، وكانت استعارته موحية بشكل فريد في هذا الوقت من التغيير الدستوري، فربما تكون النجوم «ثابتة»، لكن الأبراج التي تشكلها نتاج للخيال البشري والإبداع، وليست مظاهر محددة كونياً للكون المرئي. وكذا فإن رسم الطريق عبر مياهنا المضطربة الحالية يتطلب ملكة التمييز البشري، ومع أن الدستور يضيء الطريق لكن مهمة الإبحار والملاحة تقع على عاتقنا، وقد أشعل هذا الرئيس الجهول عن غير قصد شرارة الحوار حول كيفية الإبحار بالسفينة، فبأي نجم نهتدي، وأي شاطئ نقصد، ومن يقرر؟ يتعين علينا الآن أن نغتنم هذه اللحظة للنظر إلى أفق أكثر شمولاً، وأن نقرر معاً أي نقاط الضياء تستحق أن نتبعها، وأيها ينبغي لنا أن نطلقها إلى فضاء الليل المظلم.\

*لورانس ترايب

* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في جامعة هارفارد.