عندما ضربت الأزمة المالية الآسيوية، بشكل مفاجئ، اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا في منتصف 1997، توقع الكثير من المراقبين أن جمهورية الصين الشعبية هي قطعة الدومينو التالية التي تقترب من السقوط.

وبالمناسبة كان توقعاً منطقياً جداً بالنظر إلى حجم الروابط التجارية والاستثمارية المشتركة بين الصين وبقية الدول الآسيوية آنذاك، بالإضافة إلى حقيقة أن الاقتصاد الصيني كان يعاني، في تلك الفترة، مشاكل هيكلية لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تعانيها الدول الأربع التي ضربتها الأزمة (كوريا الجنوبية، وماليزيا، وتايلند، وإندونيسيا).

Ad

ورغم كل ذلك، تمكنت الصين، بشكل ما، من التغلب على الصعاب، ونجحت في عزل نفسها عن الانهيار المالي القاسي الذي ضرب دول المنطقة على حين غرة، ووقف سورها العظيم حائلاً دون وصول آثار الأزمة إلى اقتصادها الذي كان يمر بمرحلة تحول تاريخية.

كيف تعاملت الصين مع الأزمة؟ وكيف تمكنت من تجنب موجات الانكماش الاقتصادي الحاد الذي ضرب المنطقة دون أي ضرر نسبي؟ وما الذي يفسر المرونة التي تميز بها الاقتصاد الصيني في تلك الفترة؟ كل هذه الأسئلة تظل عالقة دون إجابة في أذهان كثيرين ممن تابعوا أزمة 97.

شهور قبل الأزمة

من حسن حظ الصين أو من حسن تخطيطها، أنه عندما وقعت الأزمة المالية الآسيوية كان الاقتصاد الصيني معداً بالفعل للتعامل مع الأزمات الشبيهة.

في ديسمبر 1996، أي قبل عدة أشهر من وقوع الأزمة، وافقت الصين على المادة الثامنة من قوانين صندوق النقد الدولي والتي سمحت لبكين بتحويل كل حيازاتها من اليوان لمعاملات الحساب الجاري، وهو ما يعني أن العملة الصينية لم تكن قابلة للتحويل إلى معاملات حساب رأس المال. وتلك ميزة كانت تفتقر إليها عملات جميع الاقتصادات الآسيوية الأخرى التي تأثرت بشكل مباشر بالأزمة.

كان اليوان قابلاً للتحويل فقط في إطار معاملات الحساب الجاري والتي تشمل الأوراق المالية الرسمية والمعاملات المعتمدة من قبل الحكومة. هذه القابلية للتحويل الجزئي لليوان جعلت من الصعب على المضاربين بيع العملة الصينية على المكشوف أو وضع رهانات كبيرة معها أو ضدها، بسبب أنه لم يكن هناك سوق صرف آجل (Forward Market).

كإجراء احتياطي إضافي ضد المضاربين الذين قد يحاولون بيع اليوان على المكشوف أصدرت إدارة التحكم في أسعار الصرف (SAEC) لوائح تم بموجبها منع المودعين الصينيين من تحويل ودائعهم من العملة المحلية لشراء الأصول المالية المقيمة بالعملات الأجنبية، في حين تم منع الأجانب من شراء الأسهم المسعرة باليوان.

وكثفت السلطات الصينية المختصة الرقابة المفروضة على البورصة وتحركات رأس المال، وبدأت تفحص معاملات حساب رأس المال وزادت من متطلبات التوثيق من المعاملات الجارية، للتأكد مما إذا كانت معاملات جارية شرعية أم مجرد معاملات رأسمالية تستخدم كغطاء للمضاربة.

كل هذه الإجراءات معاً ساهمت في جعل الصين أقل عرضة لهجمات المضاربين المحلية أو الخارجية، وهي الهجمات التي أضرت كثيراً بهياكل اقتصادات كل من ماليزيا وكوريا وإندونيسيا، وبالأخص تايلند.

الأموال الساخنة

في منتصف عام 1997 كانت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة إلى الصين تقدر بنحو 200 مليار دولار، وكان هذا ضعف حجم الديون الخارجية للحكومة الصينية. ولكن لأن تلك الاستثمارات كانت في معظمها استثمارات طويلة الأجل، وبمعدلات فائدة قابلة للإدارة، فلم يكن لذلك الحجم الكبير من الأموال أي انعكاسات سلبية خطيرة على الاقتصاد.

هذا إلى جانب حقيقة أن أكثر من نصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة إلى الصين في ذلك الوقت كان مصدرها هونغ كونغ، وهو ما جعل بكين أقل عرضة لأزمات السيولة الناتجة عن المضاربة.

بالإضافة إلى ذلك، كان نحو 60 في المئة من تلك الاستثمارات عبارة عن استثمارات عينية أي في شكل معدات ومدخلات إنتاج. ولهذا لم تخلق تدفقات رأس المال طلباً زائداً، ولم تتسبب كذلك في إحداث ضغوط تضخمية.

أما النقطة الأخرى المهمة فهي أنه على عكس كل من تايلند، وكوريا الجنوبية، وإندونيسيا، وماليزيا قبل وقوع الأزمة، لم تكن الصين مثقلة بأعباء ديون قصيرة الأجل أو الأموال الساخنة. ففي ذلك الوقت كان نحو 90 في المئة من ديون الصين الخارجية عبارة عن ديون متوسطة وطويلة الأجل. والجزء الأكبر من هذه الديون يتخذ شكل استثمارات مباشرة في مشاريع مشتركة غير سائلة أي يصعب الانسحاب منها بسهولة.

معجزة

أيضاً من بين نقاط القوة التي تمتعت بها الصين في ذلك الوقت، هو أن نظامها المالي والمصرفي لم يكن مثقلاً بالديون الأجنبية كما هو حال القطاعات المصرفية لدى جيرانها. بالإضافة إلى ذلك لم يكن بوسع مقرضي الصين الأجانب طلب قروضهم كل ثلاثة أو ستة أشهر مثلما حدث في كوريا مثلاً، وهو العامل الذي وفر شكلا من أشكال الاستقرار النسبي الذي قلل إلى حد كبير من احتمالية حدوث أزمة مصرفية فورية.

أخيراً، ونظراً لأن البنوك في الصين مملوكة للدولة، فقد كانت ديونها المعدومة عبارة عن ديون حكومية وليست ديوناً خاصة، وفضلا عن ذلك كانت تلك الديون المعدومة مقومة باليوان لا بالدولار الأميركي.

وتضافر العوامل السابقة كان له الفضل في قدرة الصين على الحفاظ على نمو اقتصادها بمعدلات قوية في عز الأزمة. ففي عام 1997 نما الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة 8.8 في المئة قبل أن يتوسع بنسبة 7.8 في المئة في 1998، وبنسبة تتجاوز 8 في المئة في 1999.

في الوقت نفسه، نجحت الصين في الاستمرار في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وفي الحفاظ على استقرار عملتها المحلية في ذات الوقت الذي تعصف فيه الأزمة باقتصادات جيرانها وعملاتهم الوطنية في تجربة أشبه بالمعجزة.