الصمت أو بئس المصير! *
سألتهم المذيعة وابتسامة عريضة على وجهها المغطس في المساحيق وكثير من علامات جراح التجميل لا تزال واضحة على الخدود والشفتين، تلك الخدود التي كانت ميزة عند البعض أصبحت الآن مشاعاً بفعل الجراحين، لم تعد هناك ملامح خاصة، ولكن الأهم أن السؤال كان حول الأمنيات كالعادة مع العد التنازلي لسنة اعتزمت الرحيل: «ما أمنيتك للعام القادم؟»، لا تتردد تلك المواطنة البسيطة التي اصطادوها وهي تهمّ إلى بيتها منهيةً يوماً طويلاً طويلاً من العمل، فتقول «كهرباء وماء»! لا، لا، هذه ليست الإجابة التي تسعى إليها تلك المذيعة، فتعيد تكرار السؤال: «ما الأمنيات الخاصة بك أنت شخصيا؟»، لا تفهم السيدة البسيطة السؤال الذي أجابت عنه بوضوح شديد أو هكذا تراءى لها، تتلعثم وكأنها تقول ما الذي تريده هذه السيدة «الجميلة والرشيقة والمتحضرة والمحظوظة»؟، ثم تفكر للحظات وترد «وظيفة لابني»، لا، لا هذه الإجابة خطأ أيضاً، وكأنها في برنامج من سيربح المليون! وجه المذيعة لا يدل على سعادة ولا حتى رضا، تجيب بشكل سريع وكأنها تريد اختفاء تلك السيدة بإجاباتها «غير الموفقة». تطالب المذيع في الشارع الذي نزل ليصطاد المواطنين على غفلة غير مدرك هو وهي أن الغفلة هي اللحظة التي يكون فيها المواطن أو المواطنة أكثر صدقا والتصاقاً بمعاناتهم.. يرى رجلاً من بعيد لا يبدو عليه التعب الكثير ولا الفقر ولا هو حتى محمل بما استطاع شراءه من احتياجات أسرته، لذلك اليوم. يعتذر منه بابتسامة لأنه سيوقفه، لكنه يريد أن يشارك المواطنين فرحتهم وأمنياتهم بالعام الجديد، يأتي جواب الرجل كالصاعقة على الاثنين حامل المايكروفون والجالس في ذلك الاستوديو الأنيق، فإجابة الرجل كانت واضحة «ألا أعتاز الوقوف عند أبواب المسؤولين أو عضو البرلمان الذي يمثل دائرتي لأحصل على أمر هو حقي وليس منية من أحد». لا، لا الإجابة غلط مرة أخرى، يضيق خلق المذيعة أكثر من ذاك الشاب الذي نزل للشارع ليؤدي دورها حتى لا تضطر للسير بالكعب العالي وتعرق فيسيح المكياج... إلخ. تهمس في أذن السماعة التي وضعها زميلها وهو في رحلة صيده السمين «ما تقدر تجيب أحد عدل؟»، والعدل حسب كل اللهجات العربية هو بمفهومها من يجيب حسب رغبتها ورغبة مدير البرامج، ثم صاحب المحطة، ثم المسؤول الذي تعبر عن رأيه أو موقفه أو جهته! ها هي سيدة أنيقة قادمة تحمل شنطة تبدو ثمينة ونظارتها الشمسية رغم أن الشمس قد اختفت خلف سرب من الغيوم الشتوية. كان جواب السيدة بعد تفكير طويل «سيارة بورش كيان هدية من زوجها وساعة رولكس و...» لم تتوقف قائمة مطالبها، فابتسمت المذيعة وصرخت في أذنه خلاص انتقل لشخص آخر، حتى هذه الإجابة لم تعجبها فهذا برنامج للمواطنين «البسطاء» ليعبروا عن أمانيهم، فهذه «الديمقراطية» على الطريقة العربية جدا في زمن يتصبب العرق في يوم شتوي بجدارة، وهو يعمل على إنجاح مهمته وكأنه يريد أن يصرخ في تلك المذيعة المسترخية في الاستوديو تحتسي القهوة: كلما رحلت الكاميرا إلى الشارع المزدحم بالبشر كل البشر ليس لشراء هدايا العيد التي هي الأخرى أصبحت حلماً صعباً، بل للبحث عما قد يأتي ببعض الفرح الذي يشاهدونه على محطات التلفزيون المواكبة للحدث المنتقلة من عاصمة الى أخرى، فرح لم يتعرفوا عليه بعد!
هناك شاب «حضاري» ببنطلون جينز ممزق على الموضة وشعره مصفف بتلك القصة المنتشرة الآن بين الأطفال قبل الكبار، فالشعر حليق على الجانبين، أما منتصف الرأس فيترك الشعر كثيفا كثيفا. يتبسم الشاب ويعدل من شعره تحسب أن تكون حبيبته ممن يشاهدون هذا البرنامج المغرق في التفاهة في طريقة الإعداد لا الهدف، فرد الشاب بحماس «أن أصبح مليونيراً.. غنيا غنيا أستطيع امتلاك ما يملكه الكثيرون في عمري من أولاد الأسر الغنية». تأتي ضحكة المذيعة الخبيثة التي لا يسمعها هو طبعا والموجهة للمشاهدين «طبعا اللهم لا حسد أكيد أكيد، لا أحد يريد أن يحسد الأثرياء الذين أنعم الله عليهم»، جيدٌ أن الشاب لم يسمعها فربما كان قد انفجر من الغضب وسبها وكل طوائفها.الإجابات كلها، كلها تمحورت في الأماني المتواضعة كهرباء، ماء، طبابة، تعليم، جنسية، كرامة، كم أنتم متواضعون أيها المواطنون العرب، كم أن أمانيكم لا تليق بأن تعرض على محطة تلفزيونية حداثية مع مذيعة كاملة الأناقة! بل إنكم جاحدون فحتى عندما يتعب أولئك ويحاولون أن يسمعوا صوتكم لا ترتقون إلى المستوى المطلوب، فلاعاجبكم برلمانيون «انتخبتوهم» ليرفعوا صوتكم، ولا تعجبكم محطات وإعلام يعمل «بجهد» ليرتقي بكم، كم أنتم جاحدون فلا تستحقون إلا أن تبقوا صامتين حتى آخر حبة تراب!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية