نحو شراكة بريطانية مميزة مع الاتحاد الأوروبي

نشر في 30-12-2019
آخر تحديث 30-12-2019 | 00:00
بعد قدر كبير من الألم والارتباك فإن قرار "بريكست" قد أصبح فعليا خلفنا، ويجب على الطرفين أن يتطلعا للمستقبل وأن يجدا وسائل للتعاون بشكل أوثق لا سيما عندما يتعلق الأمر بصياغة سياسة أمنية وخارجية مشتركة.
 بروجيكت سنديكيت بعد الانتصار الساحق الذي حققه بوريس جونسون في الانتخابات العامة البريطانية الشهر الماضي تأكد الآن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بتاريخ 31 يناير 2020، يتمتع جونسون بأغلبية برلمانية واضحة تمكنه من التوصل لصفقة خروج منظم من هذه الكتلة، وعلى الرغم من أن بريطانيا والاتحاد الأوروبي يواجهان الآن مفاوضات صعبة للتوصل لاتفاقية تجارية مفيدة للطرفين، أصبح «بريكست» نفسه واقعا مؤكدا.

ماذا يعني هذا بالنسبة إلى أوروبا؟ إن بريطانيا هي ثاني أكبر اقتصاد ضمن الاتحاد الأوروبي، وهي واحدة من دولتين في أوروبا تعتبران من القوى النووية، كما أن بريطانيا كذلك عضو دائم في مجلس الأمن الدولي تمتلك حق النقض الفيتو (إلى جانب فرنسا). لقد كانت بريطانيا دائما تتمتع بأهمية حيوية بالنسبة إلى أوروبا ثقافيا وتاريخيا، وكلما كانت حرية وأمن أوروبا على المحك كان يمكن دائما التعويل على بريطانيا لتهب للدفاع عن أوروبا.

إن المستقبل سيحدد ماذا يعني «بريكست» لبريطانيا، ولكن الكثير من التأثيرات لا تعتمد على اتفاقية الخروج، ولكن كيف ستتعامل بريطانيا مع الظروف المتغيرة للقرن الحادي والعشرين وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإن من الواضح أن الانسحاب البريطاني لن يترك الكتلة أقوى، فهناك دولة كبرى من الناحية الجيوسياسية والعسكرية مثل بريطانيا تغادر الاتحاد الأوروبي في وقت يشكك فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالضمان الأمني الطويل المدى لأميركا.

مهما يكن من أمر فإنه لن يكون لبريكست تأثير كبير على السياسة الأمنية الأوروبية، فالمصالح الأمنية لكلا الجانبين بقيت بدون تغيير خلال دراما البريكست، وإن الاندماج الأوروبي مبني على أساس السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي (الاتحاد الجمركي والمنطقة القضائية المشتركة) وليس الترتيبات العسكرية المشتركة، وفي سياق «بريكست» فإن هذا الفارق يمكن أن يكون مفيداً، وذلك نظرا لأنه على الرغم من أن كل طرف يمثل مصالح متباينة اقتصاديا، فإنهم لا يزالون يتشاركون المخاوف الأمنية نفسها.

لكن لو أرادت بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي تضمين أسئلة أمنية في مفاوضات «بريكست» فإن هذا سيخلق الظروف لنتيجة تؤدي إلى خسارة الجميع، وإن أي شيء يهدد الأمن أو الاستقرار القاري الأوروبي يتعارض كذلك مع المصالح البريطانية، وبغض النظر ما إذا كانت بريطانيا دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي أم لا فإنه يجب عليها أن تتضامن مع الاتحاد الأوروبي عندما يواجه قضايا مثل الهجرة والإرهاب.

وبالمثل فإن مقاربة مشتركة لبريطانيا والاتحاد الأوروبي تجاه روسيا والصين تبدو أمرا لا مفر منه، والسؤال الحقيقي الوحيد هو ما شكل الإطار المؤسساتي الأفضل لتعاون مبني على الثقة على تلك الجبهات التي تزداد اهميتها الجيوسياسية، وإن أحد تلك الأدوات التي تتبادر الى الذهن هو «شراكة مميزة»، وهو مفهوم طرحه الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني في السابق عن كيف يمكن للاتحاد الأوروبي الاحتفاظ بعلاقات بناءه مع تركيا مع عدم انضمام ذلك البلد للاتحاد الأوروبي.

في واقع الأمر فإن هذه الفكرة لم تنجح فيما يتعلق بتركيا لسبب بسيط، وهو أن الشروط المسبقة لنجاح هذه الفكرة لم تكن متوافرة لدى الجانب التركي، ولكن الحالة البريطانية مختلفة تماما لأن ذلك البلد سيكون قد خرج من الاتحاد الأوروبي بعد عقود من العضوية، ومع وجود مصالح مشتركة بالفعل بين الطرفين، فهم يحتاجون فقط لأن يقرروا مدى قرب علاقة التعاون المستقبلية بينهما. أنا أعتقد أن تلك العلاقة يجب أن تكون وثيقة جداً وأن يدرك الطرفان أن ما حصل بالماضي يجب أن يبقى بالماضي وعند صياغة العلاقة الجديدة، يجب أن نستفيد استفادة كاملة من العلاقات الوثيقة والمعرفة الحميمة لبعضهما.

يجب ان تتضمن الشراكة المميزة بين الاتحاد الاوروبي والمملكة المتحدة جميع مجالات المصلحة المشتركة، وذلك من التجارة والتعاون العلمي والتغير المناخي الى الهجرة والإرهاب والأمن السيبراني ومبادرات السياسة الخارجية والتنموية المشتركة، وإن أي قضية تتعلق بالمصالح المشتركة يجب أن تكون جزءا من الترتيبات المستقبلية وتخضع لإجراءات التعاون.

يبقى أن نرى ما إذا كانت بريطانيا ستعمل على صياغة سياستها الأمنية على أساس مصالحها المشتركة مع أوروبا أو أنها ستتجه مجدداً تجاه الولايات المتحدة الأميركية، وإن تحقيق التوازن بين مصالح كل لاعب في منطقة شمال الأطلنطي لن يكون سهلا، خصوصا مع وجود ترامب في السلطة، ولكن على أي حال يجب أن يسعى الاتحاد الأوروبي وبريطانيا لشكل مؤسساتي تتم هيكلته على شاكلة المجلس الأوروبي أو المجالس المتخصصة ضمن الاتحاد الأوروبي، وهذا سيسمح لكل طرف بأن يحيط الطرف الآخر علما بموقفه المتعلق بالقضايا الأمنية.

السؤال الآخر هو ما إذا كانت التنمية الاقتصادية البريطانية في المستقبل ستمكنها من المحافظة على مستواها الحالي من الإنفاق الدفاعي ضمن الناتو، ومن المنظور الأمني الأوروبي فإن هذا ربما سيكون السؤال الجيوسياسي الأهم بعد «بريكست».

بعد قدر كبير من الألم والارتباك فإن قرار «بريكست» قد أصبح فعليا خلفنا، حيث يجب على الطرفين أن يتطلعا للمستقبل وأن يجدا وسائل للتعاون بشكل أوثق لا سيما عندما يتعلق الأمر بصياغة سياسة أمنية وخارجية مشتركة، إذ إن مواقف الصين وروسيا الجيوسياسية لم تتغير بسبب بريكست كما لم ينخفض مستوى التهديد الإرهابي، وإن التحديات الجماعية التي تشكلها الهجرة والتغير المناخي وقضايا أخرى كثيرة ستبقى، والأمر الآن متروك لكل من الاتحاد الاوروبي وبريطانيا لإداراتها بشكل أكثر فعالية.

* وزير خارجية ونائب المستشار في ألمانيا من سنة 1998 إلى سنة 2005 كما كان زعيما لحزب الخضر الالماني لمدة 20 عام.

«يوشكا فيشر»

مواقف الصين وروسيا الجيوسياسية لم تتغير بسبب بريكست كما لم ينخفض مستوى التهديد الإرهابي

السؤال الجيوسياسي الأهم بعد "بريكست": هل التنمية الاقتصادية البريطانية في المستقبل ستمكنها من المحافظة على مستواها الحالي من الإنفاق الدفاعي؟
back to top