هل تذكرون حين قابل بوريس جونسون إيمانويل ماكرون للمرة الأولى بصفته رئيس حكومة؟ حصل ذلك في شهر أغسطس، وأوضحت صحيفة "غارديان" لقرائها حينها أن الرئيس الفرنسي هو الذي يتخذ القرارات الحاسمة. أرفقت الصحيفة رأيها مع صورة للزعيمَين على منصة الكلام، فبدا الرئيس الفرنسي رجل دولة، في حين وضع رئيس الحكومة البريطاني قبضته المغلقة على رأسه.كم اختلف مصير الزعيمَين بعد مرور أربعة أشهر! عاد جونسون للتو إلى السلطة بأغلبية كبرى ومبهرة بقدر الأغلبية التي حصدها حزب "الجمهورية إلى الأمام" الوسطي بقيادة ماكرون في الانتخابات البرلمانية الفرنسية في عام 2017، لكن ثمة اختلاف بارز: يقود جونسون حزباً محافظاً موحّداً، في حين تألف حزب ماكرون الناشئ من رجال ونساء من المعسكرَين اليساري واليميني، وهذا ما يفسر جزئياً قرار 11 نائباً من أصل 314 بالانسحاب من الحزب في آخر سنتين ونصف. كانت جنيفر دي تمرمان آخر المنسحبين في الشهر الماضي احتجاجاً على ما اعتبرته صرامة مفرطة في سياسة الهجرة.
لكنّ الخلاف في صفوف "الجمهورية إلى الأمام" يبقى بسيطاً مقارنةً بالانقسامات التي تعمّ البلد كله. في الشتاء الماضي، اندلعت احتجاجات "السترات الصفراء" وزعزعت الحكومة بقوة، وفي هذه السنة، أُعيق مسار فرنسا مجدداً نتيجة الإضرابات العامة ضد إصلاح نظام التقاعد المقترح. أُقفِلت معظم شبكات نقل باريس طوال ثلاثة أسابيع تقريباً، وعمد "الاتحاد العمالي العام" اليساري المتطرف إلى قطع التيار الكهربائي موقتاً عن مئات آلاف المنازل في أنحاء البلد خلال الأيام الأخيرة.كذلك، يتوعد الاتحاد بتعتيم إضافي ما لم تتخلَ الحكومة عن خطط التقاعد، وفي إشارةٍ أخرى إلى حجم التطرف الذي يتخذه المضربون، اضطرت وزيرة الرياضة روكسانا ماراسينو حديثاً للانسحاب سريعاً من ملعب كرة قدم بعدما أطلق الجمهور الغاضب الهتافات ضدها وسكب عليها المشروب.أصبحت الاعتداءات على السياسيين شائعة اليوم في فرنسا، ويشمل معظمها تخريب الممتلكات العامة ويستهدف حزب "الجمهورية إلى الأمام" الحاكم. لكن تزداد المخاوف في فرنسا من تحوّل أعمال العنف من الممتلكات إلى الناس تزامناً مع تصاعد حدة الغضب.شهدت جامعة "ليل" حادثة بشعة في نوفمبر، حين اقتحمت جماعة مناهضة للرأسمالية قاعة المحاضرات، حيث كان مقرراً أن يلقي الرئيس السابق فرانسوا هولاند كلمة، فدمرت المئات من كتبه. كانت هذه الإيديولوجيا نفسها مسؤولة عن هجوم على مسرحية عن ميلاد المسيح في "تولوز" في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، فأرهب 50 معارضاً للرأسمالية مجموعة أولاد بحجة حماية العلمانية الفرنسية.في ما يخص هوية من دنّسوا مقبرة يهودية في بداية هذا الشهر ورسموا الصليب المعقوف على شواهد القبور، قد يكون اليمينيون أو الإسلاميون المتطرفون مسؤولين عما حصل، هكذا تنتشر مظاهر معاداة السامية في فرنسا.على صعيد آخر، يواجه المزارعون ترهيباً يومياً من جانب المتطرفين المدافعين عن حقوق الحيوانات. سُجّلت هذه السنة ألف حادثة مماثلة، بدءاً من إضرام الحرائق وصولاً إلى كتابة عبارة "قَتَلة" على الجدران، وهذا ما دفع الشرطة إلى تدريب المزارعين على اتخاذ التدابير الأمنية اللازمة.في الوقت نفسه، لا يزال تهديد التطرف الإسلامي قائماً أكثر من أي وقت مضى، وقد رصد تقرير جديد انضمام 30 جندياً فرنسياً إلى جماعات جهادية في السنوات الأخيرة.أمام ماكرون سنتان ونصف السنة لمعالجة هذه الانقسامات كلها، لكن لا يتوقع الكثيرون في فرنسا نجاحه، فالبلد كئيب بمعنى الكلمة ويبدو شعبه متعباً ومتشائماً وثائراً.عملياً، بدأت فرنسا تشبه البلد الذي صوّره ميشال ويلبيك في روايته البائسة Submission (الرضوخ) التي تعرضت للهجوم من جانب المفكرين الفرنسيين عند نشرها في كانون الثاني 2015، فسخروا حينها من رؤية الكاتب القاتمة حول فرنسا التي أصبحت على شفير حرب أهلية قبيل الانتخابات الرئاسية في عام 2022، لكنّ أحداً لم يعد يسخر من ويلبيك اليوم!* "غافين مورتيمر"
مقالات
فرنسا لا بريطانيا... دولة غاضبة ومنقسمة!
31-12-2019