عندما انتهت الحرب الباردة، توقع كثير من الخبراء والمراقبين قدوم عصر جديد للاقتصاد الجغرافي يحدد هيئة السياسة الجغرافية، ومع تقدم التكامل الاقتصادي تنبؤوا بأن النظام القائم على القواعد سيمد جذوره إلى مختلف بقاع العالم، وأن الدول ستلتزم بالقانون الدولي أو تتحمل تكاليف باهظة.

اليوم يبدو هذا التفاؤل ساذجا، فعلى الرغم من اكتساب النظام الدولي القوة على نحو متزايد ظاهريا ظلت سيادة القوة غالبة على سيادة القانون، ولعل الدولة التي حققت أقصى قدر من الاستفادة من هذا الوضع هي الصين.

Ad

لنتأمل هنا مشاريع السدود التي أقامتها الصين على نهر الميكونغ، الذي يتدفق من هضبة التبت التي تسيطر عليها الصين إلى بحر الصين الجنوبي، عبر ميانمار، ولاوس، وتايلند، وكمبوديا، وفيتنام، ففي بناء 11 سدا ضخما بالقرب من حدود هضبة التبت ألحقت الصين ضررا لا يمكن إصلاحه بنظام النهر وأحدثت دمارا بيئيا أوسع نطاقا، بما في ذلك تسرب المياه المالحة إلى دلتا الميكونغ، والذي تسبب في انحسار الدلتا.

اليوم يجري النهر عند أدنى مستوى مسجل في 100 عام، وتشتد حدة الجفاف في بلدان مصب النهر، وهذا يعطي الصين قدرا كبيرا من النفوذ على جاراتها، ومع ذلك لم تواجه الصين أي تبعات لاستخدامها مياه الميكونغ كسلاح، وليس من المستغرب أن تقوم الصين ببناء 8 سدود ضخمة أخرى على الأقل على النهر.

وقد تكون تصرفاتها في بحر الصين الجنوبي أشد وقاحة، فمن خلال بناء وعسكرة جزر اصطناعية أعادت الصين رسم خريطة المنطقة الجيوسياسية دون إطلاق رصاصة واحدة، أو تكبد أي تكاليف دولية.

في يوليو 2016،قضت محكمة تحكيم دولية أنشأتها محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي بأن مطالبات الصين الإقليمية في بحر الصين الجنوبي تفتقر إلى الشرعية بموجب القانون الدولي، لكن قادتها تجاهلوا الحكم ببساطة واصفين إياه بالـمهزلة، وما لم يتغير أي شيء، فإن الخطة التي تقودها الولايات المتحدة لجعل منطقة المحيط الهادي الهندي «حرة ومفتوحة» ستظل حبرا على ورق.

إن ازدراء الصين الصريح لحكم محكمة التحكيم الدائمة يتعارض بشدة مع استجابة الهند للقرار الصادر عن محكمة أنشأتها محكمة التحكيم الدائمة في 2014، والذي قضى بمنح بنغلادش نحو 80% من أراض متنازع عليها في خليج البنغال، ورغم أن القرار لم يصدر بالإجماع، وتضمن عيوبا واضحة فقد قبلته الهند على الفور.

الواقع أنه بين 2013 و2016، وحين كانت الدعوى التي أقامتها الفلبين ضد مطالبات الصين في بحر الصين الجنوبي منظورة أمام القضاء أصدرت ثلاث محاكم مختلفة أنشأتها محكمة التحكيم الدائمة 3 أحكام ضد الهند في نزاعات مع بنغلادش وإيطاليا وباكستان، وامتثلت الهند للأحكام الثلاثة.

المغزى الضمني هنا واضح: فيما يتعلق بالدول الكبيرة ذات النفوذ أو التأثير، يُـعَد احترام النظام القائم على القواعد اختيارا، وهو الاختيار الذي تبدو الصين عازفة عن اتخاذه، وعلى هذه الخلفية من غير المرجح أن تكون الإجراءات القانونية المحتملة من فيتنام بشأن أراضيها المتنازع عليها مع الصين ذات أي أثر يُذكَر، والواقع أن فيتنام تدرك أن الصين ستتجاهل أي حكم صادر ضدها وستستخدم نفوذها التجاري لمعاقبة جارتها الأقل قوة.

لهذا السبب هناك حاجة ماسة إلى آلية إنفاذ للقانون الدولي، فستنشأ المنازعات بين الدول دائما، ويتطلب ترسيخ السلام آليات لحل هذه المنازعات بصورة عادلة وفعّالة، وتعزيز احترام الحدود القائمة.

مع ذلك، يبدو من غير المرجح أن تنشأ مثل هذه الآلية في أي وقت قريب، فالصين ليست وحدها في انتهاك القانون الدولي دون عقاب: فقد انتهكته الدول الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: فرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وهي الدول ذاتها التي ائتمنها ميثاق الأمم المتحدة على مهمة مناصرة السلام والأمن الدوليين.

في زمننا الحاضر أصبح القانون الدولي قويا ضد المستضعفين، وعاجزا في مواجهة الأقوياء، وعلى الرغم من التحولات الهائلة التي طرأت على الاقتصاد، والأوضاع الجيوسياسية، والبيئة، يبدو أن هذه الحال لن تتغير، حيث تستخدم الدول الأقوى القانون الدولي لفرض إرادتها على نظيراتها الأكثر ضعفا، في حين تتجاهله هي ذاتها، وما دام هذا الوضع قائما، فإن النظام العالمي القائم على القواعد سيظل أشبه بورقة التوت التي تغطي عورة ملاحقة المصالح الوطنية بالقوة.

* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز بحوث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب منها «الطاغوت الآسيوي»، و»المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا».

«براهما تشيلاني»