من هتلر إلى ستالين، ومن موسوليني إلى ماو، تَبَنى دكتاتوريو القرن العشرين في العالم مقولة نيكوليو مكيافيلي الشهيرة: «من الأفضل أن يخافك الناس على أن يحبوك»، ومع ذلك، يبدو أن معظم الدكتاتوريين العصريين يسعون إلى الحفاظ على ولاء شعوبهم ليس من خلال منحهم ما يريدون، ولكن عن طريق التلاعب بأفكارهم وإقناعهم بأن لديهم الحق في التعبير عن رأيهم. لا أحد يمكنه تنفيذ هذا النهج ببراعة أكثر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

على الرغم من أن معدلات تأييد بوتين قد انخفضت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، فإنها لا تزال مرتفعة، حيث تُشير الاستطلاعات إلى أن 61 في المئة من الروس يعتبرون أداءه إيجابي. إذا أجريت انتخابات رئاسية اليوم، فإن 44 في المئة سيصوتون لبوتين، ولن يحصل أي مرشح آخر على دعم مزدوج الرقم.

Ad

لا يدين بوتين بشعبيته لقيادته الاقتصادية، فمنذ استعادة منصب الرئاسة في عام 2012، فشل باستمرار في الوفاء بوعود الإصلاح، وزيادة الإنتاجية والاستثمار، وتحسين مستوى عيش الروس، ولا يبدو أن حكومته لديها أي خطة لإنعاش معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الراكد.

يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدل نمو إجمالي الناتج المحلي السنوي في روسيا أقل من 2 في المئة خلال السنوات الخمس المقبلة، ففي عام 2021، من المتوقع أن تنخفض حصة روسيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (من حيث تعادل الشراء) إلى أقل من 3 في المئة لأول مرة في العصر الحديث. نظرا الى القيمة الاسمية، فإن هذه النسبة ستصبح أقل، إذ تقدر بنحو 1.8 في المئة، والأهم من ذلك أن الدخل الحقيقي للأسر الروسية يقل حاليا بنسبة 10 في المئة عما كان عليه في عام 2014، ولا يوجد أي مؤشر على ارتفاعه في المدى القريب.

إذاً ما الذي يفسر شعبية بوتين المستمرة؟ وكما أُجادل ودانييل تريسمان في مقال حديث، تكمن الإجابة بالنسبة إلى بوتين وغيره من المستبدين الحديثين في القدرة على التحكم في المعلومات التي يتلقاها الناس، وهو ما يُمكّن القائد من إقناع معظم الناس بأن هذا هو الخيار الأفضل للبلاد، على الرغم من عجز النظام.

في العصر الرقمي، لن تكون هذه مهمة سهلة، إذ يُدرك العديد من المواطنين المتعلمين- أو كما نسميهم «النخب المطّلعة»- أوجه القصور في النظام، لذلك يجب على المستبدين منع هؤلاء النخب من توصيل الحقيقة للناس.

يؤدي القمع دورًا مهمًا في الوقت الراهن، ولكن بعيدًا عن القمع الجماهيري الذي تم نشره على نطاق واسع في الماضي- والذي يهدف إلى إخافة كل معارضة محتملة- فإن للقمع اليوم أهدافا محددة ويمكن إنكاره. تم منع زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني رسميا من الترشح في خوض الانتخابات الرئاسية لعام 2018، ليس لأسباب سياسية، ولكن بسبب تُهم سابقة بالغش والاحتيال (التي ألغتها لاحقًا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان). مكّن هذا النهج بوتين من الاعتقاد أنه حصل على السلطة في انتخابات حرة ونزيهة.

يستفيد المُستبدون الإعلاميون العصريون من الرقابة بشكل كبير. تحتل روسيا المرتبة 20 في المئة من تصنيفات حرية الصحافة التي جمعتها منظمة «فريدوم هاوس» و»مراسلون بلا حدود». علاوة على ذلك، يُشير مؤشر حرية الإنترنت لمنظمة «فريدوم هاوس» إلى تراجع حرية الإنترنت في روسيا مقارنة ببيلاروسيا أو كازاخستان أو تركيا، مما يعكس أهمية الرقابة على الإنترنت في نظام استبدادي إعلامي مع زيادة استخدام الإنترنت. وفقًا لتقرير غوغل للشفافية، تقود روسيا العالم في الطلبات الرسمية لإزالة المحتوى عبر الإنترنت، ففي النصف الأول من عام 2019، قدمت روسيا أكثر من 10.000 طلب لإزالة المحتوى، أما البلد الثاني، تركيا، فكان لديه 1000 طلب فقط، والصين ليست مُدرجة في الترتيب.

مع حظر الدستور الروسي للرقابة، أصبحت أهم وظائف رقابة الكرملين تتمثل في إخفاء المعلومات المتعلقة بأنشطتهم الخاصة عن الشعب، وقد نجحوا في تحقيق ذلك، ففي الأنظمة الاستبدادية المعلوماتية مثل روسيا، يكون عامة الناس أكثر تفاؤلاً بشأن حرية وسائل الإعلام من النخب المُثقفة.

تكمن الأداة الرئيسة الثالثة لإسكات النخبة المطلعة في المشاركة، فبدلاً من مقاومة نظام بوتين، ومواجهة القمع أو الرقابة، تتم مكافأة النخب الروسية التي تختار دعمه، وفي الواقع، لكي يستمر هذا النظام الفاسد، يجب على بوتين ضمان توفير مكافآت أكبر من التي يقدمها المنافسون.

ولكن رغم فعالية هذه الأدوات، فإن التحدي المتمثل في التحكم في المعلومات يزداد حدة. على وجه الخصوص، أصبح موقع اليوتيوب منصة قوية للمدونين المستقلين والمعارضين، فضلاً عن الأخبار السياسية، ونظراً لشعبية اليوتيوب كمصدر للترفيه للروس العاديين، لا يمكن للكرملين ببساطة حظر المنصة دون الكشف عن نطاق أنشطة الرقابة.

تمكنت الصين إلى حد كبير من تجنب هذا التحدي من خلال إطلاق نسختها الخاصة من الإنترنت التي تُسيطر عليها، بما في ذلك وسائل الإعلام الاجتماعية ومنصات الترفيه. لكنها أطلقت هذه الاستراتيجية بمجرد بدء انتشار الإنترنت، لذلك لم يستمتع المستخدمون الصينيون بحرية اليوتيوب مطلقًا، ومع اندماج الروس بالفعل في الإنترنت العالمي، فقد فات الأوان لتبني مثل هذا النهج.

ومما يضاعف التحدي صعود النخبة المُثقفة في روسيا، وكما أشار المدير العام لوكالة الأنباء الروسية الدولية ديمتري كيسيليف مؤخرًا «يُولِّد التعليم العالي في العلوم الإنسانية الاضطرابات الاجتماعية»، وليس من المستغرب أن يشتكي من أن «الكثير» من الروس يدرسون هذه المواضيع.

لن تصبح غالبية سكان روسيا مُطلعة بين عشية وضُحاها، لكن بما أن النظام مجبر على تكريس المزيد من الموارد لإسكات المثقفين، فإن الأغلبية ستعاني اقتصاديًا، وفي النهاية سيطغى الواقع على تفاؤل أجهزة التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بالنظام، وستبدأ أسس استبداد بوتين الإعلامي في الانهيار.

* كبير الاقتصاديين السابق في البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير والعميد السابق للكلية الاقتصادية الجديدة في موسكو، وأستاذ الاقتصاد في ساينس بو في باريس.

«سيرجي غورييف»