التوازن الدستوري...والرضائية
البناء التاريخي للنظام السياسي الكويتي أُسس على فكرة جوهرية تَوافق عليها أهل الكويت، ألا وهي الرضائية واقتسام السلطة بين الأسرة الحاكمة (ممثلة بالحاكم) وبين الشعب.لم تكن تلك الرضائية فكرة طارئة إنما ركيزة لبناء الدولة، وهو ما تلمس معه متانتها والتمسك المستمر بها والتذكير بعمقها لكونها، إن صح التعبير، جوهر العقد الاجتماعي للدولة الذي التقت على أساسه إرادة الطرفين.ويدرك من يتعقب تطور الفكر السياسي لنظام الحكم في الكويت وأبعاده الدستورية، بل يتمكن بشكل جازم من أن يجد خطاً متصلاً ومتوازناً في تكريس هذه الرضائية والمشاركة في اقتسام السلطة عبر المراحل التاريخية التي مرت بالكويت منذ تأسيسها في عام 1756 وحتى يومنا الحاضر، رغم ما مرت به من عثرات وممارسات خرجت عن هذا السياق، في فترات استثائية كانت لها دائماً إسقاطات سلبية، وورّثت تجاذبات وتوترا وأجواء من عدم الثقة المتبادل.
فقد كانت المرجعية الدائمة هي التذكير بثوابت الرضائية التي كانت قوام الدولة ومصدر قوتها ومناعتها في مواجهة عاديات الدهر، وهي أساس الاستقرار الذي تنعم به الأسرة من جهة، والشعب من جهة أخرى في ظل هذا التوازن الفريد.وفي تشخيصي لمسار هذه الرضائية عبر جميع المراحل من خلال تعقب تطور الفكر الدستوري الكويتي في كتابي "الوسيط للنظام الدستوري الكويتي ومؤسساته السياسية" 2004 أبرزتُ هذه المحورية الرضائية كونها جوهر بناء الدولة بثوابتها الوطنية، بشكل مؤسس ومصون في ظل الدستور العرفي الذي حكم الكويت منذ 1756 حتى 1920، ثم تم الارتكاز عليها في مغزى وأحكام أول وثيقة دستورية مكتوبة عام 1921 بشكل يماثل وثيقة "الماغنا كارتا" الإنكليزية (1215)، بل انعكست بتوازناتها المهمة في دستور عام 1938، الذي انتقل بالكويت إلى حكومة البرلمان (الجمعية) في نطاق ملكية دستورية، وتم تعزيزها في مسودة دستور 1938، رغم خروجه عن مسار التوازن المطلوب، وهو ما عجل بحل البرلمان آنذاك وغلبة تفرد الأسرة بالسلطة فترةً وجيزة، وسرعان ما شهدت عودة للمسار الرضائي، نظراً لوخامة عواقب التفرد بالسلطة، فتوالت المجالس الإدارية الشعبية المنتخبة والمُعينة المتعاقبة. وهو ما مهد لتعزيز ذلك بتولي الشيخ عبدالله السالم للحكم، فكانت فترة الخمسينيات مخاضاً وطنياً خصباً لتأكيد المسار الرضائي، وهو ما توج بصدور دستور يناير 1962 (دستور مرحلة الانتقال) وكانت آلية وأسلوب إصدار دستور 11/11/ 1962 النقلة الحديثة في تكريس هذه الرضائية الفريدة، وهو ما نطقت به ديباجة الدستور وتناولته المذكرة التفسيرية للدستور، وعايشه الناس في مرحلة وضع الدستور والتوافقية المستمرة بين الحاكم والشعب في التشاور وتبادل الرأي، وهو ما عبرت عنه بشكل صريح وتوازن نموذجي المادتان 4 و6 من الدستور، فحفظت للأسرة مرجعيتها وحصر الحكم فيها بمسند الإمارة وولاية العهد من جهة، ومنح الشعب سلطة المرجعية في إدارة شؤون الدولة، كونه مصدر السيادة والسلطة، من جهة أخرى.وعلى الرغم من كل ذلك، فقد شهد تطور التاريخ السياسي ممارسات كانت تخرج عن هذا السياق ولَم تجنِ الكويت بسبب إهدار الرضائية والتزام مبادئ اقتسام السلطة، إلا أحوالاً سلبية وتراجعاً مريعاً في مسار الدولة وتجاذبات تنال من الثقة وتخلف غيوماً كثيفة من أجواء التوتر، بسبب التحريض على التفرد بالسلطة، وهو ما أحدث شروخاً في مسيرة الدولة وأدخلها في أزمات متفاوتة، ومن ثم كانت دائماً العودة لثوابت التوازن الفريد في الرضائية والمشاركة، على أساس مرجعية الدستور والمادتين 4 و6 هي طوق النجاة للكويت، وهو ما التقت عليه إرادة الأسرة والشعب بمؤتمر جدة، وما تلاه من خطوات هامة لاحقا.ولذا فإننا لابد أن نؤكد اليوم، وبشكل ملح، جوهرية هذه الرضائية والمشاركة، بعيداً عن الاستجابة لدعوات التفرد، حتى نعزز من قوة بلدنا ومناعته، في ظل ظروف داخلية وإقليمية تتطلب أن نذكر بعضنا، أسرةَ حكم ابتداءً وشعباً واعياً انتهاءً، بمكمن متانة بناء الدولة وقدرتها على تجاوز عاديات الدهر من خلال التفاف كل مكونات الشعب حول الأسرة والحاكم، انطلاقاً من الرضائية المتوازنة المرتكزة على قاعدة صلبة تمثلها المادتان 4 و6 من الدستور.