تعمّ الاحتجاجات والاضطرابات شوارع العراق ولبنان، حيث يتمّ توجيه غضب المتظاهرين ضدّ طبقاتهم السياسية الخاصة وضدّ حكومة إيران، فالمواطنون في لبنان والعراق لم يضيقوا ذرعاً بسوء الإدارة الاقتصادية والحوكمة غير الفعالة والفساد المستشري في أوساط النخب السياسية محلياً فحسب، بل يربطون أيضاً وضعهم الكئيب بنفوذ إيران المسبّب للفساد واستغلال «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني لبلديهما من أجل تمويل وتسليح الميليشيات التي لا تخضع للمساءلة أمام دولها.

وإذا ما أضفنا هذه الاحتجاجات إلى أعمال الشغب الواسعة النطاق في إيران، يعتبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذه التطورات دليلاً على أن ما يسمى سياسة الضغط الأقصى التي تمارسها إدارته والقائمة على تضييق الخناق على الاقتصاد الإيراني تؤتي ثمارها، وليس من المفاجئ أن تكون الإدارة الأميركية مصممة الآن على تشديد سياسة العقوبات، وهي على قناعة بأن هذا الأمر سيرغم طهران على الإذعان والسعي إلى إجراء مفاوضات، مجددةً استعدادها لتقديم تنازلات على صعيد برنامج النظام النووي وسلوكها في المنطقة، ويشكّك نُقّاد الإدارة الأميركية في نجاح هذه السياسة، معتقدين أنها ستحشر الحكومة الإيرانية في الزاوية ببساطة، مما يدفعها إلى تصعيد حدّة النزاعات في المنطقة عوضاً عن الخضوع.

Ad

وللأسف، لم تقدّم الإدارة الأميركية أو نقادها اقتراحات مقنعة حول كيفية الاستجابة للتطورات الحاصلة في العراق ولبنان، وبالنسبة إلى هذه الإدارة، فإن تقديم الدعم الخطابي للشعبيْن العراقي واللبناني ودعوة الأجهزة الأمنية إلى وقف الانتهاكات يعكس حدود ما تعتقد أنه يمكن فعله. وقد يكون النقاد حتى أكثر سلبيةً، خوفاً من أن يؤدي الانخراط الأميركي المتزايد إلى الانتقاص من التركيز المناهض لإيران، أو حتى الأسوأ من ذلك، إلى مفاقمة الوضع في أي من هذين البلدين نظراً إلى سجل إدارة ترامب الحافل بتنفيذ السياسة بصورة غير متقنة.

والمفارقة هي أنه لا يبدو أن الإدارة الأميركية ولا منتقديها مقتنعون بإمكانية حصول تغيير فعلي ومستدام في العراق ولبنان، رغم أن هذا ما يطالب به المحتجون على وجه التحديد، أما استقالة رئيسَيْ الوزراء العراقي واللبناني- عادل عبد المهدي وسعد الحريري- فهي غير مجدية إلى حد كبير، فالنخب السياسية في العاصمتيْن تركّز بشكل أكبر على توزيع المناصب الوزارية في الحكومتين المقبلتين لا على تقديم اقتراحات إصلاح سياسية واقتصادية جريئة تستجيب لمطالب المحتجين.

ومن المرجح أن يُحافظ التكرار التالي لحكومتَي بيروت وبغداد على النظام القائم على «هيمنة النخبة» الذي يغذي نفسه من خلال توزيع السلطة على أسس طائفية، ويدرك المحتجون في البلدين تركيز قادتهم الضيّق على الحفاظ على الذات؛ ولم يتم استرضاؤهم ويبدو أنهم يحافظون على حماستهم للنزول إلى الشوارع اعتراضاً على ما يجري.

ولا شك أن تردد وشكوك إدارة ترامب ونقادها على حد سواء ناجم عن التجارب المريرة للولايات المتحدة في محاولتها تحفيز التغيير في الشرق الأوسط، وفي حين عجزت الإدارتان الجمهورية والديمقراطية عن تشجيع الإصلاحات الممنهجة في الشرق الأوسط، فإنه يبدو في المقابل أن إيران حققت نجاحات خلال السنوات القليلة الماضية، فقد استفادت طهران من القرارات الخاطئة التي اتخذتها الولايات المتحدة والفراغ في السلطة في المنطقة من أجل بسط نفوذها ووسائلها القسرية خارج حدود إيران.

والآن، يشير المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي إلى سورية ولبنان باعتبارهما جزءاً من جبهة «الدفاع الأمامي» لإيران، وقد نفّذت إيران استراتيجيتها باستخدام القوة الصارمة والناعمة على حدّ سواء، بنقلها أسلحة موجّهة بدقّة إلى مناطق لا تحتكر فيها الحكومات استعمال القوة في كل من سورية والعراق؛ وتدريب ميليشيات شيعية في سورية والعراق ولبنان واليمن ونشرها بأدنى تكلفة على طهران؛ وتكملة هذه الأدوات العسكرية بحوافز القوة الناعمة المُصمَّمة وفقاً للسياقات المحلية، على غرار اللعب على الوتر الطائفي، وشراء العقارات، ودفع الأموال للقبائل، والعقود التجارية، وتقديم الخدمات، حيث إن جميع هذه العناصر مصممة للاستفادة من الحكومات الضعيفة والقادة المستضعفين والسكان المحتاجين.

والنتيجة الصافية: يبدو أنّ إيران أحكمت قبضتها على القادة والحكومات في العراق وسورية ولبنان، كما حققت هدفها المتمثل بإملاء السياسات ودمج وكلائها (حزب الله، منظمة بدر، عصائب أهل الحق)، ضمن المؤسسات الحكومية لضمان النفوذ على المدى الطويل، وبعد استعراض هذا المشهد الاستراتيجي، تَحدَّث صناع السياسة الأميركيون بجرأة وعلن عن ضرورة تراجع إيران لكنهم لم يقترحوا مطلقاً استراتيجية فعالة ومُموّلة بشكل مناسب لتحقيق هذا الهدف.

غير أن ردود الفعل الساخطة المنتشرة مؤخراً ضد الفساد والحكومات الهشة والقوات الأمنية المستبدة التي لا تخضع للمساءلة أمام المواطنين اللبنانيين والعراقيين تشير إلى أن المكاسب الإيرانية قد لا تكون مستدامة ولربما نقلت الأزمة إلى الداخل الإيراني نفسه. وحتماً، إن ردّ النظام الإيراني الوحشي على الاضطرابات في 20 مدينة على الأقل- ذلك الرد الذي أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص واعتقال أكثر من 7000 آخرين- يشير إلى أن النظام يشعر بأنه ضعيف ويرزح تحت وطأة الضغوط لمنع انتشار الاحتجاجات، وإن صح ذلك يجب على الولايات المتحدة ألا تفترض أن موقف إيران في المنطقة قوي وراسخ للغاية بحيث لا يسع لواشنطن القيام بالكثير لردعها.

ويُعتبر واقع أن الجمهور الشيعي الكبير في العراق ولبنان يشكل جزءاً لا يستهان به من التظاهرات ضد الحكم الطائفي وسيطرة إيران، خير دليل على نقاط ضعف طهران وصعوبة المحافظة على مكانتها في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن استراتيجية القوة الناعمة التي تنتهجها إيران- باستفادتها من الروابط الشيعية في المناطق ذات الأغلبية العربية لاكتساب نفوذ من خلال مشاريع ثقافية ودينية وإعلامية واقتصادية- تبدّدت بما أن اسمها أصبح مرتبطاً علناً بالفساد والقادة الذين لا يخضعون للمساءلة والحكم غير التمثيلي وسوء الإدارة الاقتصادية وقوات الأمن المستبدة والردود الوحشية على المحتجين. وقد بسطت إيران سيطرتها وعززت انتشارها في الخارج، في وقت لم يقدّم فيه قادتها اللبنانيون أو العراقيون أي شيء مفيد، كما أن حملة القمع المحلية الوحشية ضد المحتجين الإيرانيين تقوّض قدرتهم على الإقناع.

وفي الوقت الراهن، لا تملك إيران الكثير من الأدوات أو الموارد- لا سيما في ظل سوء إدارة اقتصادها المتأزم- لذا يجب أن تتمكن الولايات المتحدة من منافستها بفعالية أكبر، وحتماً حان الوقت للتخلي عن أداة السياسة الخارجية المفضلة لدى إدارة ترامب والمتمثلة باستخدام العقوبات من أجل التصدي لكل نشاط إيراني خبيث، سواء أنشطتها النووية غير الشرعية أو دعمها للإرهاب أو انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وفي الوقت نفسه، لا تعدّ العقوبات الأداة الأكثر فاعلية المتاحة أمام صناع السياسة الأميركيين رداً على الاحتجاجات الداعية إلى وضع حد للفساد، والاقتصادات المتزعزعة، والقادة الذين لا يخضعون للمساءلة.

يجب على السياسة الأميركية أن تركز الآن على إدراك ما يمكن لواشنطن أن تقدمه للمنطقة وتمييز اسم الولايات المتحدة عن رؤية إيران العقيمة والمليئة بالعنف، وإذا كانت الإدارة الأميركية غير مستعدة أو غير قادرة على حشد دعم الحزبين المحليين لاعتماد تحول مماثل في السياسة، فقد حان الوقت لكي يتحرك الكونغرس، ومن المؤكد أن الأعضاء المنتمين لكلا الحزبين لا يزالون ملتزمين بالحفاظ على استقرار المنطقة، والتصدي لإيران ودعم الإصلاحات المجدية في قطاع السياسة والاقتصاد والأمن.

ويتمثل أحد الخيارات في تقديم شراكات استراتيجية مع الشعبين اللبناني والعراقي من خلال خطوة تشريعية: شراكة محدّثة بين الولايات المتحدة والعراق ترسّخ الالتزامات التي تم التعهد بها أساساً ضمن «اتفاقية الإطار الاستراتيجي» في عام 2008 واتفاق جديد بين الولايات المتحدة ولبنان يرسم خريطة طريق لمشاركة ثنائية خارج نطاق تركيز واشنطن القديم على الجيش اللبناني. ويُعتبر تحرك الكونغرس ضرورياً لأنه يُرسخ أفقاً زمنياً غير مرتبط بمواعيد الانتخابات الرئاسية ويرسل إشارة موثوقة إلى منطقة تخشى التقلبات الحادة والرسائل المتباينة للإدارات الأميركية.

ويجب أن يكون عرض الكونغرس الأميركي لبناء هذه الشراكات مشروطاً بترفّع القادة والحكومات في العراق ولبنان على حد سواء عن الدعم والتعهدات الخطابية واتخاذهم تدابير ملموسة تستجيب فعلاً لمطالب المحتجين، فما يمكن للكونغرس تقديمه لا يتمثل ببساطة بالتمويل أو الدعم الشفهي بل بوضع إطار لشراكة تستجيب لمطالب المحتجين، ويجب أن يشمل التشريع متطلبات إعداد تقارير علنية حول معايير الإصلاحات، فضلاً عن تقييم تطبيقها الفعلي، كما يجب أن يكون التمويل والمساعدة مطروحين على الطاولة، خاصة لدعم الإصلاح في الوزارات المدنية.

أما الخبر السار فهو أن الولايات المتحدة تمتلك فعلياً الخبرة الفنية والعلاقات الدولية، ولا سيما التعاون مع الحلفاء والمنظمات غير الحكومية الموثوقة من أجل المساعدة في مكافحة الفساد وتعزيز سيادة القانون وإعادة الخدمات وتقديم التدريب وتطوير البنية التحتية وتحفيز النمو الاقتصادي. وبالإجمال، تقدّم الشراكة مع الولايات المتحدة إمكانية التبادلات العلمية والتعليمية والتجارية والتكنولوجية المجدية، وهذا ما يريده المحتجون، وهذا ما يمكن أن تقدّمه واشنطن بشكل مفيد.

ولا تقدّم إيران أياً مما ذُكر، وبالتالي، أمام الولايات المتحدة الآن فرصة لتقديم ما لا تستطيع إيران توفيره، وهو: منح الأمل للشعبين العراقي واللبناني المتعطشين للتغيير الفعلي، واللذين لن يستكينا على الأرجح إلى أن يحصلا عليه.