أولاً وأخيراً: تكون أو لا تكون
شهدت الأزمة الليبية خلال الأيام الأخيرة تطورات خطيرة، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الشعب الليبي والمجتمع الدولي بأكمله انفراجة والتوصل إلى تسوية سياسية ووقف المعارك ونزيف الدماء أظهرت تركيا علناً تدخلها في الشأن الليبي بعد أن كانت تدعم حكومة الوفاق سراً حيث وقعت اتفاقيتين مع رئيسها فايز السراح، واحدة في المجال البحري والثانية في المجال الأمني، الأمر الذي قوبل برفض وإدانة واستنكار دوليين واسعي النطاق، خصوصاً من دول الجوار اليونان وقبرص ومصر. فالاتفاقية البحرية تسمح لتركيا بالتدخل بشكل أكبر في المياه الإقليمية بالبحر المتوسط والتنقيب عن الغاز، في حين تمهد الاتفاقية الأمنية لإرسال قوات عسكرية تركية لدعم حكومة الوفاق، مما يهدد باشتعال الموقف على الحدود الغربية مع مصر، في ظل توتر العلاقة بين نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظام الرئيس رجب طيب أردوغان.وقد أحدثت هذه التطورات المتسارعة المزيد من الانشقاق وتوسيع الهوة بين الأطراف الليبية المتناحرة والمتصارعة على الحكم، ومن خلال هذه الخطوة غير المدروسة من قبل رئيس حكومة الوفاق فإن البرلمان الليبي الذي من المفترض أنه في حالة حوار سياسي مع السراج لحل الأزمة المستعصية سارع إلى تقديم مذكرات للجامعة العربية والأمم المتحدة وكل المنظمات الإقليمية لإلغاء وإبطال الاتفاقية، وسحب الاعتراف الأممي بحكومة السراج، كما تزايدت وتيرة الرفض داخل الشارع الليبي لسياسات حكومة الوفاق، واعتبر غالبية الليبيين ما قامت به هذه الحكومة اعتداء على حقوقهم، وانتهاكاً لسيادة بلادهم، وتفريطاً بثرواتها، وأن مثل هذه الأعمال ليس هدفها المصلحة العامة بقدر ما هي مجرد نكايات سياسية وتصفية حسابات تدخل ليبيا في أتون صراع إقليمي لقوى تسعى إلى استغلال الوهن الذي أصاب بعض الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي، لنشر الفوضى والانقسامات وإذكاء روح الطائفية والصراعات لأهداف تتعلق بانتماء أنظمة هذه الدول إلى معتقدات جماعات دينية موجودة على الساحة الليبية، وكذلك رغبة من هذه القوى في الهيمنة وإعادة فرض السطوة والنفوذ على المنطقة.
لقد أصبح الليبيون بين المطرقة والسندان، فمن جهتها تدعي حكومة الوفاق أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الليبي والمعترف به دولياً، لكنها على أرض الواقع تستخدم قواتها وميليشاتها المسلحة في قتل الليبيين وتقف حجر عثرة أمام التوصل إلى حلول سياسية تعيد الأمن والاستقرار لهذا البلد الذي أنهكته الحرب والصراعات على مدار 9 سنوات، كما أن هذه الحكومة تعقد الصفقات السياسية المشبوهة، وتستقوى بقوى إقليمية للتدخل في الشأن الداخلي رغم أن هذه القوى لها أطماعها التي يعرفها القاصي والداني، وفي المقابل تعمل قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر أو ما يطلق عليها قوات الجيش الليبي الوطني على السيطرة على العاصمة طرابلس دون أي تقدم يذكر، فعلى مدار شهور طويلة تروج قوات حفتر بأنها على وشك الانتصار وتحرير طرابلس من قبضة الإرهابيين، ولكن هذا لم يحدث رغم سقوط العشرات من القتلى وتدمير الكثير من البنى التحتية.والحقيقة التي ربما يدركها القائمون على الأمر في ليبيا لكنهم يتغافلون عنها أن ليبيا لا تحتاج إلى المزيد من الصراعات واللعب بالنار من السياسيين والعسكريين، ولا تحتاج إلى اتفاقيات تزيد فتيل الأزمة اشتعالاً، ولا تحتاج قادة يرغبون في تحقيق طموحاتهم الشخصية الزائلة مقابل بيع أوطانهم، إنما ليبيا تحتاج إلى الحكماء ومن يجيدون لغة الحوار ويعلون المصلحة العامة فوق كل اعتبار، ويسعون إلى تحقيق آمال شعوبهم في الأمن والاستقرار والحياة الكريمة. ليبيا أمام مفترق طرق إما أن تكون أو لا تكون، فإذا أحسن حكماؤها التصرف والقرار وانتشلوها من بئر الفوضى والإرهاب فسيذكرهم الشعب الليبي بالخير والعرفان بالجميل، أما إذا استمر هؤلاء في صراعاتهم فسيضيّعون ليبيا ولن يجدوا لهم وطناً يؤويهم، ولن يغفر لهم التاريخ هذه الجريمة.