تمثل الإجراءات الإسرائيلية في مدينة القدس استراتيجية متكاملة ومتعددة المستويات والأوجه لتحقيق هدف واحد، تهويد المدينة، وتكريس السيادة الإسرائيلية عليها، والإضعاف التدريجي للوجود الفلسطيني فيها. والحديث يدور عن عملية متواصلة منذ احتلال المدينة في السادس من يونيو عام 1967،
وتتمثل الركائز الرئيسة لهذه الخطة، في البناء الاستيطاني داخل مدينة القدس وحولها، وتوسيع مساحتها الجغرافية، والتضييق الاقتصادي والاجتماعي على سكانها الفلسطينيين، والخنق الاقتصادي بعزل المدينة عن محيطها الطبيعي في الضفة الغربية، والخنق المنهجي لإمكانات البناء في المدينة، وهدم آلاف البيوت الفلسطينية فيها.ومنذ بداية التسعينيات بدأت حكومات إسرائيل إجراءات عزل القدس بالكامل عن المدن والقرى الفلسطينية الأخرى، بحيث أصبح الدخول إليها مشروطا يتصاريح فردية، فتحولت الحواجز المؤقتة الى معابر حدودية. ومنذ الانتفاضة الثانية تصاعد الهجوم على المؤسسات المقدسية، وما زال مستمرا بالإغلاق والحصار، وقمع أنشطتها، ومؤخراً بدأت حكومة إسرائيل عملية تصفية للمؤسسات الفلسطينية، بما في ذلك اعتداءاتها المتكررة بالاعتقال والإهانات للمسؤولين الفلسطينيين، ومنهم وزير شؤون القدس، ومحافظها، وإغلاق مديرية التربية والتعليم، ومكتب تلفزيون فلسطين. ومن الناحية الديمغرافية، تتكرر التهديدات بسحب الهوية المقدسية من عشرات الآلاف، بعد أن سُلبت بشكل منهجي من آلاف المقدسيين من خلال قوانين وإجراءات تعسفية.وأصبح الهجوم المتواصل على المقدسات الدينية أمرا يوميا بما في ذلك ما يتعرض له المسجد الأقصى من تقييد واقتحامات في محاولة لفرض أمر واقع جديد.لا يمكن التقليل من أهمية إصرار المقدسيين البواسل على الصمود في مدينتهم، وما تقوم به عشرات مؤسسات المجتمع المدني، والأطر الرسمية من جهود للحفاظ على طابع المدينة المقدسة، بالإضافة إلى الجهد الشعبي والكفاح المتواصل لسكان أحياء القدس رغم القمع والتنكيل، كما لا تجوز الاستهانة بالمغزى النضالي والمعنوي للهبات الشعبية التي شهدتها القدس كلما جرت محاولات للمس بالمقدسات، كما جرى في يوليو 2017.غير أن كل ذلك لا ولن يغني عن الحاجة لخطة وطنية متكاملة، فالخطة الاستراتيجية الإسرائيلية لا يمكن أن تواجه وتصد إلا باستراتيجية فلسطينية واضحة وفعالة، ولا يمكن مواجهة طوفان النشاطات العنصرية المتعاظمة بإجراءات منقوصة، أو بردود أفعال مؤقته، أو بمجرد بيانات الإدانة والاستنكار.ولا يمكن للاستراتيجية الفلسطينية أن تكون فعالة، إن لم توضع بالتشاور الصادق، والمشاركة الحقيقية لأهل القدس، ومكوناتها السياسية والاجتماعية، كما لا يمكن لأي استراتيجية في القدس أن تنجح إن لم تمثل شراكة حقيقية بين المؤسسات الوطنية الفلسطينية الرسمية كمنظمة التحرير، ومكونات المجتمع المدني المقدسي. الاستراتيجية المطلوبة، يجب أن تُعد بسرعة، وأن تأخذ في الاعتبار، ما يتعرض له التجار المقدسيون، وأصحاب المرافق الاقتصادية، والطلاب والجهاز التعليمي الفلسطيني، والمؤسسات الصحية بما فيها مستشفيات القدس، واحتياجات البناء والسكن، ومتطلبات دعم المؤسسات المجتمعية والأهلية، وأن تقوم على فهم دقيق وصادق لما يحتاجه المواطنون المقدسيون وخاصة جيل الشباب، لتعزيز صمودهم وبقائهم في مدينتهم.ولا بد لنجاح هذه الاستراتيجية من الاستفادة من تجارب الماضي، وأولها، ضرورة تجنب إنشاء مراكز وهيئات متنافسة فيما بينها، كي لا يتكرر ما حدث سابقا عندما كان بعض الناس يضيعون معظم طاقاتهم على التنافس الداخلي بدل التركيز على المهام الصعبة التي تواجههم.وثانيا، ضرورة تجنب الأنماط والهياكل والإجراءات البيروقراطية، فالاستراتيجية الفعالة أيا كانت مكوناتها، يجب أن تطبق باعتبارها فعلا شعبيا، يستقطب التفافا شعبيا، ولا يوجه بالأوامر الإدارية.حماية القدس كعاصمة لا تنازل عنها، ليست مجرد شعار بل رؤية تحتاج إلى فعل، وعمل، وممارسة نضالية متواصلة. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
مقالات
القدس
05-01-2020