إذا كانت أي دولة غربية تعاني اختلالا في الأداء الديمقراطي فهي إسرائيل، فمع فشل الزعماء السياسيين هناك مرة أخرى في تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في سبتمبر، سيعود الناخبون إلى صناديق الاقتراع في مارس 2020 للمرة الثالثة في أقل من عام واحد. ولكن، في ضوء الأجواء السياسية الملتهبة المستقطبة والنظام الانتخابي الشديد التناسبية في إسرائيل، فماذا قد يتوقع المرء من التصويت الوطني المقبل غير المزيد من الجمود والإخفاق؟

دأب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو على تصوير نفسه على أنه ونستون تشرشل إسرائيل، المخلص الأوحد لشعب يواجه تهديد محرقة جديدة من قِبَل إيران النووية، لكنه الآن سيكون في غاية السعادة بمحاكاة رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون من خلال تأمين أغلبية برلمانية واضحة بالاستعانة بمزيج من الإصرار على الكذب والتلفيق من جانبه والإرهاق والضجر من جانب الناخبين.

Ad

علاوة على ذلك، لا يزال نتنياهو يحمل بعض أوراق اللعب، إذ يحلم كثيرون من الناخبين الإسرائيليين الذين ينحدرون من أصول روسية بما يمكن تسميته "بوتن إسرائيلي"، أو حاكم أقوى يتسم بمزاج استبدادي، ولعل "بيبي" الشخص الأكثر تأهيلا لهذا الوصف، ولكن في واقع الأمر، يعتقد أغلب الإسرائيليين أن حقبة ما بعد نتنياهو بدأت بالفعل، وأن رغبة رئيس الوزراء في البقاء في السلطة قدر الإمكان هي لتجنب السجن المحتمل بسبب جرائم مزعومة تتعلق بالفساد لا تقل عن رغبته في البقاء في السلطة لإنقاذ شعبه.

كما تعمل غريزة نتنياهو في الحفاظ على الذات على تعظيم خطر تصعيد التوترات مع إيران، خاصة أن النظام في طهران ربما يستسلم لإغراء تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل التي تحيط به.

صحيح أن الشرق الأوسط اليوم لا يشبه أوروبا في عام 1869 عشية اندلاع الصراع الفرنسي البروسي، ولا توجد "أحزاب حرب" في القدس أو طهران كتلك التي كانت قائمة آنذاك في باريس وبرلين، مما يشير إلى أن وجود الصواريخ البعيدة المدى، سواء كانت مسلحة برؤوس نووية أو لم تكن، تُـحدِث فارقا ملموسا في هذا الصدد. ومع ذلك، ربما توفر التوترات الإقليمية مهلة مريحة للنظام الإيراني الذي يخسر شعبيته على نحو متزايد، سواء في الداخل أو في العراق ولبنان، حيث تمارس إيران قدرا كبيرا من النفوذ، كما لا يمانع نتنياهو في افتعال بعض التوتر مع إيران بشأن سورية، إن لم يكن ذلك إلا لتذكير الناخبين الإسرائيليين بألا أحد قد يضاهي بيبي عندما يتعلق الأمر بالأمن، حتى برغم أن منافسه الرئيس بيني جانتز، زعيم حزب الأبيض والأزرق، كان قائدا سابقا للقوات المسلحة الإسرائيلية.

الواقع أن إسرائيل لا توضح لنا أزمة الديمقراطية الليبرالية الحالية فحسب، بل تميزها أيضا نظرتها إلى مستقبل العالم بالفعل على أنه يتألف من "قوتين عظميين"، وبالتالي فإن صناع السياسات في إسرائيل يواجهون التحدي الاستراتيجي الأكبر المتمثل في موازنة العلاقات مع الولايات المتحدة والصين.

من الواضح أن قادة إسرائيل لا يرغبون في إضعاف العلاقات القائمة منذ أمد بعيد مع أميركا، حليفتها الأكثر أهمية، غير أن مستقبل العالم، وبالتالي مستقبل إسرائيل، سيتحدد بشكل متزايد تبعا للتطورات الجارية في آسيا. وعلى هذا ففي ملاحقتها لاستراتيجية يعتبرها بعض المراقبين انتهازية هازئة في حين يرى آخرون أنها حكيمة، أصبحت إسرائيل متزايدة الانفتاح تجاه الصين.

يتعين على المسؤولين الإسرائيليين أن يعملوا على إقناع حكومة الولايات المتحدة بطريقة أو بأخرى بأن تصرفات مثل السماح لشركة صينية مملوكة للدولة ببناء محطة شحن جديدة في ميناء حيفا، أو تبني تكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات الصينية، ليست اختيارات موجهة ضد أميركا، وهم يزعمون أن مثل هذه التطورات لا ينبغي لها أن تثير قلق الولايات المتحدة بشكل مفرط لأن إسرائيل دولة صغيرة، لكن صناع السياسات في الولايات المتحدة يخشون إذا عملت واحدة من أقرب حلفائها وأكثرهم إخلاصا لأميركا على تقوية علاقاتها مع الصين أن يسعى حلفاء آخرون أقل قربا وأكبر حجما- وخاصة الاتحاد الأوروبي- إلى القيام بالشيء ذاته.

ورغم أن المسؤولين الإسرائيليين يدركون تمام الإدراك هذه المعضلة، فإنهم يفقدون الثقة في الولايات المتحدة. ليس الأمر أن الدبلوماسية الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب أصبحت خارج كل التوقعات والتنبؤات فحسب، بل إن سُـم معاداة السامية بات ظاهرا بوضوح أيضا في الولايات المتحدة، ففي عام 2019، تجاوز عدد اليهود الذين قُتِلوا في هجمات معادية للسامية في الولايات المتحدة نظيره في أوروبا، كما أن الجمعيات اليهودية الأميركية التي كانت في السابق تجمع الأموال للمساعدة في ضمان أمن إسرائيل أصبحت الآن مهمومة على نحو متزايد بأمنها هي.

إن التحديات الديمقراطية التي تواجه إسرائيل تسير جنبا إلى جنب مع تقاربها مع الصين. صحيح أنها تستطيع أن تقدم ذاتها، عند مقارنتها بإيران، ومِصر، أو تركيا اليوم، على أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ما دمنا نتغافل عن الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. (على هذه الجبهة، تدور منافسة بين إسرائيل وأغلب الأنظمة العربية، إن لم يكن جمعيها، حول أيها قد يكون الأقل اكتراثا بمحنة الفلسطينيين). مع ذلك، يحدث في إسرائيل الآن تطور مستتر يمثل أكثر من مجرد شكل مختلف من مبدأ "الديمقراطية جيدة، لكن الأمن أفضل"، وإذا كانت أميركا وإسرائيل تتحركان في الوقت ذاته في اتجاه "الديمقراطية غير الليبرالية"، فإنه يصبح من الصعب أن نتحدث عن "جغرافية القيم" التي توحد البلدين.

مع دخول الصين في المعادلة، يصبح كل شيء أكثر بساطة وأشد تعقيدا على الفور، فمن ناحية، يستهزئ قادة الصين بحقوق الإنسان تماما، ومن ناحية أخرى، لا يستطيع المرء أن يخاطب شعورهم بالذنب التاريخي كما قد يفعل مع الأوروبيين، ولا يستطيع أن يستشهد بالمرجعيات التوراتية التي لاقت صدى قويا بين رؤساء الولايات المتحدة من أمثال هاري ترومان وجيمي كارتر.

بينما ينغلق الغرب على ذاته على نحو متزايد، يتعين على إسرائيل الآن أن تفكر في الكيفية التي قد تمكنها من البقاء كقوة طليعية للغرب وأول خطوطه الدفاعية في الشرق الأوسط، لكن إسرائيل ربما تستسلم ذات يوم لإغراء تقديم ذاتها بدلا من ذلك على أنها الخط الأمامي للحداثة الآسيوية في المنطقة، والاستعداد للاستعاضة عن الحماية الأميركية بالحماية الصينية. من الواضح أن التساؤل حول ما إذا كانت إسرائيل من الممكن أن تقطع كل العلاقات مع قيمها أمر سابق لأوانه اليوم، لكن الغد قد يكون قصة أخرى.

إن مقاومة مواطني هونغ كونغ للحكم الصيني الاستبدادي تذكر الإسرائيليين- أو ينبغي لها أن تذكرهم- بالجذور الديمقراطية لبلدهم، ولكن نظرا للإجهاد الانتخابي الواسع النطاق وتوازن القوى العالمي المتغير، فيتبقى لنا أن نرى إلى متى قد تدوم قدرة القيم الديمقراطية على التأثير في الأحداث.

* دومينيك مويزي

* مستشار خاص في معهد مونتين في باريس.