تنظيم «الدولة الإسلامية» أو «داعش» سقط لكنه لم ينتهِ! في مارس 2019، استولت القوات الكردية والعربية المدعومة من الولايات المتحدة على آخر معقل إقليمي للتنظيم بالشرق الأوسط، في بلدة باغوز، شرقي سورية. وبعد مرور 7 أشهر، قتل زعيم التنظيم، أبوبكر البغدادي، نفسه، بعدما حاصرته قوات العمليات الخاصة الأميركية في نفق مسدود.لكن لم يمت «داعش» معه في ذلك اليوم. في نوفمبر الماضي، أدلى راسل ترافرز، القائم بأعمال مدير المركز الأميركي الوطني لمكافحة الإرهاب بشهادته أمام الكونغرس، واعترف بأن «داعش» نفذ عدداً من الاعتداءات العابرة للحدود بناءً على تنسيق مركزي للعمليات، وأطلق حملات دعائية على مر السنة الماضية، مما يشير إلى درجة من «تحسّن التواصل» فيه. وحتى بعد مقتل البغدادي، يقول ترافرز إن «التنظيم ظل صلباً وتابع توسّعه في بعض المناطق».
اليوم، تتوقف عودة «داعش» على رجل اسمه أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. تبدو المعلومات ضئيلة عن خلف البغدادي، ولا تزال هويته الحقيقية غامضة (القرشي هو لقبه الحربي). وصفه المسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية بـ«النكرة»، واعترفوا بأن «أحداً لا يعرف خلفيته». لكن لتجميع بقايا التنظيم المتطرف والاستفادة من الزخم الذي استرجعه في السنة الماضية، يتعين على القرشي أن يحل مشكلتين أساسيتين أعاقتا مسار سلفه: خلاف أيديولوجي يُهدد بتمزيق «داعش» من الداخل، وشبكة متوسعة ومتسارعة من الفروع والجماعات العالمية التي تطرح تحديات متعددة على وحدة القيادة المركزية.
بين العقيدة والخلاف
لم يرث الخليفة الجديد تنظيماً موحداً أو ذا تماسك أيديولوجي من البغدادي، بل ورث تنظيماً منقسماً جداً حول مسألة التكفير العقائدية. انتشر الخلاف على نطاق واسع، لكنه يتمحور حول سؤال واحد: هل يدخل المسلمون الذين يعذرون إخوتهم في الدين حين يرتكبون أفعالاً «مُشرِكة» مثل التصويت في الانتخابات (يُعتبر هذا الفعل تعبيراً عن الولاء لسيّد آخر غير الله) في خانة الكفار؟تعتبر إحدى الفصائل داخل «داعش» («الحزيميون» أو «المتطرفون») أن مجرد تقبل هذه الأفعال كفر، ما يشرّع قتل متقبّلي الأفكار «الشائبة»، أما جماعة «المعتدلين» فهي تعارض هذا التفسير، ويحذر أعضاؤها من عدم قدرتهم على الدفاع عن مقاربة المتطرفين، لأنها ستضع أعداداً هائلة من المسلمين خارج الإيمان، بما في ذلك عدد كبير من المجاهدين الذين يختلفون حول طريقة تفسير مفهوم التكفير وظروف استعماله. ووفق وثائق «داعش» الداخلية، التي سرّبها منشقون عن الجدل القائم بين المعسكرَين حول معنى التكفير، يبدو أن البغدادي وجد صعوبة في معالجة هذا التوتر في سنواته الأخيرة.في أواخر عام 2015، أعلن قسم الأمن العام في «داعش» (هيئة مكلفة إدارة مجموعة واسعة من المسائل الأمنية الداخلية والخارجية) أنه يخطط لتطهير التنظيم من المتطرفين. لكن في بداية عام 2016، ادعى تركي البنعلي، أحد أهم العلماء في «داعش»، أن مشكلة «التطرف» داخل التنظيم لا تزال عالقة.وفي جهود للتوسط بين مختلف الفصائل، أصدر «داعش» تقريرين في منتصف عام 2016، فمنع التنظيم في أحدهما من مناقشة طبيعة التكفير، وأكد في الثاني أن أبرز مشكلة يواجهها التنظيم لا تتعلق بالمبالغة في تكفير الناس بل باعتداله المفرط.بحلول مايو 2017، أدانت القيادة العليا في «داعش» المتطرفين في صفوفها، عبر حكم رسمي جعل التنظيم في الوقت نفسه أقرب إلى التفسير المتطرف للتكفير. هذه التسوية الغريبة أثارت غضب علماء «داعش» الأكثر اعتدالاً، فعبروا علناً عن استيائهم من ذلك الحكم. وفي سبتمبر 2017، تراجعت قيادة «داعش» عن قرارها، وسحبت حكم شهر مايو عن التكفير، لكن هذا التنازل لمصلحة المعسكر المعتدل لم يكبح موجة الاعتراض المتصاعدة. بعد مقتل البغدادي مثلاً، ذهب المعتدلون إلى حد التشكيك في شرعية القرشي (لا يزال موقفه من التكفير مجهولاً) في تقريرَين نُشرا عبر وكالة «الوفاء» الإعلامية المعارِضة.ترافق ذلك الجدل العقائدي حول التكفير مع تداعيات واسعة على أرض الواقع، وأدى الاقتتال الداخلي العنيف إلى إضعاف «داعش» خلال فترة حاسمة من تراجعه في عامي 2018 و2019، فتصدّعت جميع طبقات التنظيم، بدءاً من العلماء وصولاً إلى جنود المشاة، وحصلت انشقاقات أيضاً.نتيجة لذلك، بدأ أعضاء «داعش» يعتبرون علماء الدين في التنظيم «أساس المشكلة»، كما قال المنشق أبو عبدالملك الشامي، وهذا ما دفع الهيئة الإدارية العليا في «داعش» إلى سجن عدد من العلماء المتورطين في تفاقم الجدل حول التكفير.حتى الآن، لا يزال المتخاصمون في المعسكرين مقتنعين بأن الطرف الآخر مسؤول عن خراب التنظيم. لم يتضح بعد أي فريق هو الأقوى أو ما سيفعله القرشي لمعالجة هذا الجدل، لكن إذا بقيت المشكلة عالقة فستؤدي على الأرجح إلى إضعاف سلطته وقدرته على التنسيق بين عشرات الفروع والجماعات التابعة للتنظيم عالمياً.السلطة المركزية لن تصمد!
ورث القرشي سلطة تُمكنه من فرض سيطرته على كيان عابر للحدود، من غرب إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا. في بداية عام 2014، كان التنظيم يُعرف باسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وكان موجوداً رسمياً في هذين البلدين فقط.أما اليوم فيملك «داعش» فروعاً تصل إلى أقصى الشمال في أذربيجان وأقصى الجنوب في موزمبيق ومينداناو في الفلبين. في مايو 2019، أضاف التنظيم فرعاً في باكستان إلى قائمة فروعه المتوسعة أصلاً. اعتُبِر توسع «داعش» المتسارع عالمياً من أهم إنجازات البغدادي، لكن واجهت السلطة المركزية في الوقت نفسه عدداً من التحديات السياسية والثقافية واللغوية.ويكشف سيل الفيديوهات الحديثة، التي يظهر فيها مقاتلون من أنحاء العالم وهم يقسمون يمين الولاء للقرشي و«داعش»، مدى عمق انتماء مختلف فروع التنظيم إلى القيادة المركزية. وبحسب وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية، لا تزال قيادة «داعش» على الأرجح تتولى تنظيم الاعتداءات والحملات الدعائية العابرة للحدود في مختلف فروعها.لكن ظهرت مشاكل أخرى على مستوى التنسيق مع الفروع الجديدة. حين توسع التنظيم للمرة الأولى باتجاه غرب إفريقيا في عام 2015، سعى «داعش» إلى إقامة شراكة مع الجماعة المتطرفة النيجيرية «بوكو حرام». لكن زعيم هذه الجماعة، أبوبكر شيكاو، رفض الالتزام بمعايير «داعش»، مع أنه أقسم يمين الولاء للبغدادي، فنشأ صراع عميق داخل التنظيم في غرب إفريقيا. وفي عام 2016، اضطر البغدادي إلى استبدال شيكاو بالمتحدث باسمه، أبومصعب البرناوي. يُقال إن اختيار البرناوي زاد قوة الروابط بين «داعش» وفرعها في غرب إفريقيا. لكنه قسّم الجماعة أيضاً إلى قسمين، فقد هرب شيكاو مع الجنود الموالين له، ومن المتوقع أن تنشأ مشاكل تنسيقية مشابهة في إفريقيا وأماكن أخرى، فيما تحاول القيادة المركزية في «داعش» إعادة ترسيخ مكانتها بعد مقتل البغدادي.ولإدارة هذه الشبكة، التي تشهد تنامياً متسارعاً، سيحاول الخليفة الجديد على الأرجح أن يزيد قوة قسم الأمن العام. برأي بنجامين باهني وباتريك ب. جونستون، وهما عالِمان سياسيان في مؤسسة «راند» للأبحاث والتطوير، يشكّل هذا الكيان «الأداة التي تضمن تماسك داعش من الأعلى إلى الأسفل». إنها صلة وصل أساسية بين قيادة التنظيم وأقسامه المتخصصة التي تتولى تنسيق جميع الجهود، بدءاً من إنتاج الحملات الدعائية وصولاً إلى إنشاء خلايا نائمة. في عهد البغدادي، حافظ هذا القسم على وحدة كبار قادة التنظيم، وحرص على تكيّف القيادة المركزية مع لائحة الفروع المتوسّعة في مناطق متنوعة جغرافياً.يملك القرشي، باعتباره زعيم «داعش» الجديد، الصلاحيات اللازمة لرسم مستقبل تنظيمه. لكن يلوح في الأفق حتى الآن إرث البغدادي والتحديات التي واجهها في عهده. لإعادة بناء «داعش» كتنظيم قوي له امتداد عالمي، يجب أن يعالج القرشي التصدع الأيديولوجي الداخلي وطريقة قيادة الفروع المتفرقة، تزامناً مع تجنب مصير سلفه!