للمفردات حياة، ولكل حياة مفردة معنى، لا يمكن أن يدرك الفرد منا معنى ذلك إلا ربما عندما يعيش أكثر من زمن، ويعبر بحوراً عميقة وأمواجاً متلاطمة في سرعة لا يدركها إلا عندما يكون قد سبقه الزمن أحياناً، أو رمته الموجة عند حافة الشاطئ. كثير من المفردات تتداول اليوم بمعانٍ عفا عليها الزمن، أي أنها عتقت فكان الواجب أن نغير التفكير، ونضع مفاهيم جديدة لها لتتماشى مع زمن ما بعد الأخلاق والقيم، ألا يمكن أن يكون هناك زمن كهذا؟ أليس هناك زمن الحضارات وزمن آخر للعولمة وثالث يفضل البعض تسميته بالزمن الجميل، مختصرين كثيراً من المعاني التي تبدأ بالحب والمحبة والود ولا تنتهي عند الوفاء والإخلاص؟
مثلا، كان للخيانة معنى، وهي خيانة الحبيب لحبيبته، ثم تطورت لتصبح خيانة الأمانة أو خيانة العهد أو... أو... إلخ. من بين كل الأصدقاء كان هو المتربص لمن ينطق بكلمة خيانة عند ربطها للعلاقة بين زوجين، ويردد: لا يوجد شيء اسمه خيانة، ويعلق بأن القلب يتسع لأكثر من شخص، إذاً فاللائمة على القلوب المتعددة الغرف لا البعد الأخلاقي للمفهوم، وكان النقاش يسخن وتعلو الأصوات وينقسم الجالسون، فالرجال يعجبون بتفسيرات صاحبهم للخيانة ورفضه لهذه المفردة، بل أعتقد أنه في إحدى المرات قال: علينا حذفها من مختار الصحاح وكل القواميس وبكل اللغات، وتوقف قليلا فتلك كانت المرحلة المشبعة بالأفكار السياسية ومحبة الوطن، حينها فكر قليلاً وردد ربما تبقى «الخيانة» لتكون مرتبطة بخيانة الوطن فقط لا غير، فهذه فعلا خيانة، وتشعب في تفسيراتها حتى لو رددناهم اليوم لوجدنا أن كم خائني الوطن قد أصبح هو الأكبر، وقلَّ عدد المخلصين له المحبين المضحين.«فاست فورود» كما يقولون أي نعود بسرعة الآن إلى هذه اللحظة، فتختفي الكلمة بالفعل، ما أراد صديقنا أن يحققه لوحده حققه الكثيرون دون أن يدروا أو ربما «مع سبق الإصرار والترصد» أعادوا كلمة خيانة وأبعدوها عن الخيانة في الحب والعلاقات الزوجية خاصة، وأنه قد أصبح هذا هو النمط السائد، أما القلة فهي التي لا تزال باقية كما يقولون على العِشرة ربما أو بقايا حب، وكثرت مفاهيم الخيانة، وتعددت بتطور الأزمان والبشر، وصولا إلى آخر نقطة في مقاييس الانحطاط الأخلاقي. الخيانة كسبت مفاهيم حداثية نيوليبرالية متلاصقة مع «الانفتاح» والاقتصاد الحر، أو اقتصاد السوق، أو هي بلغة رجل الشارع «شيلني وأشيلك»، و»كله يبرر كله»، أي ترجمة للغاية تبرر الوسيلة، وأيضا، وهذا مهم جدا، «أنا ومن بعدي الطوفان»، حتى لو جرف الطوفان أحبتي وعائلتي وأصدقائي ورفاقي في العمل، وحتى أرضي التي أعشق. بعضنا لا يزال بتلك العقلية التي يسميها البعض «متحجرة» أو خارجة عن هذا الزمن، بعضنا لا يزال يتصور أن الوفاء هو أهم صفات للبشر، والعطاء أيضا دون مقابل. هي من تلك العينة المنقرضة كالديناصورات، والتي ستتحول بعد فترة إلى مادة مهمة في صندوق زجاجي في أحد المتاحف، تصطف كما المصاحف القديمة وكتب الأديان والتاريخ، هي تصورت أن العطاء لا يمكن إلا أن يعود بالخير، لم تكن تنتظر أن يرد الجميل بجميل أكبر منه، بل ببعض من الوفاء، فصدمت بقلة أو انعدام الوفاء بل الاحترام أيضا، لأن كثرة العطاء في زمن «الأنا» هي بعض من الغباء أو الهبل، لم تدرك إلا عندما تحول أكثر من منحتهم كثيراً من وقتها وأعصابها لكي لا يضيع حقهم أصبحوا كما «علمته الرماية فلما اشتد ساعده رماني»، فكانت هي الفريسة الأولى لرحلة التسلق على الأكتاف و»بوس الأيادي». عادت الخيانة إلى الواجهة بمفهوم أكبر من مجرد خيانة الحبيب أو الوطن، لتصبح أكثر تماشيا مع أخلاقيات زمن اللا أخلاق، الخيانة، كما كثير من المفردات الأخرى، بحاجة إلى إعادة نظر وإضافات كثيرة، رغم أن خيانة الوطن قد أصبحت وجهة نظر فقط!!!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
للمفردات تاريخ للموت *
13-01-2020