اكتساب الشركة شخصية اعتبارية (معنوية) من المسلّمات التي يتطلبها القانون والواقع لعمل الشركات، حيث إنه عندما يتم تسجيل المشروع التجاري كشركة، تنفصل حقوق وواجبات الشركة عن مؤسسيها، وتبدأ الشركة حياتها التجارية.

عند الحديث عن استقلالية الشركة وانفصالها عن المساهمين والمؤسسين دائمًا ما يسلّط الضوء على قضية Salomonv A Salomon & Co Ltd التي حدثت في إنكلترا، وإهمال تداعيات تطبيق مبدأ الشخصية المعنوية للشركة في الظروف السائدة بدول أخرى منها الولايات المتحدة الأميركية التي يشكّل الاطلاع على قضاياها ضرورة كبيرة في مجال قانون الشركات، لأنها ضمن النظام الأنجلو- أميركي الرائد في هذا القانون.

Ad

وتعد قضية People›sPleasurePark Co. v. Rohleder من القضايا ذات الأبعاد المختلفة الجديرة بالتمعّن والقراءة، حيث كان حكمها ينطوي على تطبيق العدالة بشكل غير مقصود، يحمل في طياته تنبؤات وموافقات للحريات قبل الاعتراف بها بـ٥٠ عاما، مما يستلزم تسليط الضوء عليها.

ففي عام ١٩٠٨م، اشترى جوزيف ب. جونسون- وهو مستعبد سابق - أرضا باسم شركته People’s Pleasure Park Co لوجود قيود قانونية على تملّك الأراضي، حيث كانت هذه الأرض مقسّمة لعدة مبان، وكل مبنى يحتوي على وثيقة مثقلة بقيود تمنع من تسجيل الأرض لشخص من أصول إفريقية أو ما يسمى بـ «شخص ملون» (Colored person).

فكانت هذه القاعدة واسعة الانتشار في ذلك الوقت؛ قبل نصف قرن من الحكم بعدم دستوريتها من قبل محكمة التمييز العليا، مما جعل مثل هذا التصرف يثير معضلة قانونية تستدعي تدخّل المحكمة في النظر بصحة هذا التصرف، وكانت محكمة ولاية فرجينيا هي المحكمة المختصة في النظر للنزاع آنذاك.

وهنا تجب الإشارة إلى أن المسألة القانونية التي أثيرت أمام المحكمة لا تتعلق بأحقية تملّك الشركة لهذه الأرض، فما هو معروف وسائد بأن الشركة شخص معنوي منفصل، ولكن كانت المسألة تثور حول أحقية ملكية هذه الشركة المملوكة حصريا من قبل أشخاص ملونين، والتي أسست لمصلحة ترفيه أشخاص ملونين، فالسؤال القانوني هنا يدور حول معرفة صفات الشركة نفسها، فهل الشركة شخص ملون؟ ذلك لمعرفة مدى تقيدها بهذا القيد الذي يمنعها من تملّك هذه الأرض.

وأتى حكم المحكمة بحجة قوية أنقذت جوزيف، حيث كانت حجتها بأن الشركة غير قادرة على أن يكون لديها لون، فالشركة كائن قانوني منفصل مستقل عن مالكيها ومؤسسيها – كالدولة -، ووفقاً للقانون لا وجود لشركة ملونة، بناء على ذلك لديها كل الحق في أن تتملك هذه الأرض، ولأن الشركة هي المالكة للأرض وفقًا للقانون، فلا يعد جوزيف مالكًا للأرض، وبذلك لا ينطبق القيد على هذه الحالة.

وبذلك بقيت الشركة ومُحيت إنسانية جوزيف! ولأن هذا الأمر يشكّل سخرية القانون لا سخرية القدر، نستحضر ما ذكر في مقدمة كتاب السر في خطأ القضاء: «أن القانون يكفل للمال حماية تفوق تلك التي يكفلها لحياة الأشخاص وحرياتهم وشرفهم».

وأنه من المؤسف أن تعتبر الشركة، وهي كائن خيالي قانوني، شخصاً حراً يمتلك كل الحقوق، بينما يعتبر الإنسان وهو كائن خلقه العليّ القدير ناقص الأهلية وناقص الحقوق، فكيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ بالرغم من مرارة هذا الحكم في تفضيل وإعطاء الشركة مكانة أعلى من الإنسان الذي كرّمه الله، إلا أن هذا الحكم كان في طيّاته الرحمة والعدالة.

ترجمة مفهوم العرق في سياق الشركات

من جانب آخر، تجدر الإشارة إلى أن هذا الحكم قد أغضب الكثير من الأشخاص المحليين والمحامين الرائدين في مجال الشركات آنذاك، ذلك لأن العقلية السائدة كانت تتبنى الأفكار المسومة بالعنصرية، فقد تم الاستماع لهذه القضية قبل ٥٠ عاماً من قيام حركة الحقوق المدنية في أميركا التي تم على إثرها إلغاء العبودية، إلا أنه وفق للقانون في ذلك الوقت لم يخرج الحكم عن المألوف، ففي النظام الأنجلو أميركي، اعتبرت الشركات لقرون مديدة شخصا اعتباريا أو مصطنعا، لا لون له، غير مرئي، غير ملموس أو معنوي، فتحديد شخصية الشركة لم ينطوِ من قبل على ارتباطها بعرق معيّن، فمحكمة فرجينا لم تنوِ في حكمها محاربة العنصرية على حساب القانون، بل كانت متمسكة بتطبيق مبدأ فصل الشخصية المعنوية للشركة، وقد جاء هذا التطبيق – وهي المفارقة العجيبة - بشكل يفوق كل الاعتبارات الأخرى ومنها العرق، ودائمًا ما يتم التصدي لهذه القضية عند الحديث عن العرق ومفهومه ضمن سياق الشركات، فبعد سنوات من الاعتداد بالشركة كشخصية خالية من التبعات العرقية، إلا أن القضاء الأميركي قد بدأ أخيراً بالاعتراف بالشركة في تملّكها لكيانات عرقية «كمسألة تدخل ضمن تطبيق القانون»، مما يدل نوعًا ما على تطور مفهوم العرق في نطاق الشركات، إلا أن هذا الاعتراف الأخير لا يناقض بشكل كافٍ ما نصت عليه محكمة فيرجينيا في عدم اعتبار شركة بيبولز بليجير بارك كشركة ملونة أو كشركة سوداء، ومن هنا تظهر الحاجة إلى اعتراف القانون بأهمية العرق لعلاج الأضرار المعترفة قانوناً والناتجة عن الفهم السلبي السائد لعرقٍ ما، وإلا - كما نادى البعض - سيتم الاستمرار بالتعامل مع الشركة كقناع لإخفاء العرق والهوية، كما حدث مع جوزيف، وذلك للتهرب من الأضرار الناتجة عن العرق دون معالجتها.

وإضافة على ذلك، فالاعتراف القانوني بالعرق ضمن سياق الشركات - في اعتقادي - سيقلل من غلوان الشركات باعتبارها كائنا قانونيا أنانيا ذا مصلحة، ويقرّبها أكثر من أنها إنسان طبيعي خيّر، فإعطاء الشركة مثل هذه السمات البشرية يجعل من السهل عليها احتضان المفاهيم المختلفة كمفهوم «الشخص الصالح» للشركة، والتي يضع عليها مسؤولية اجتماعية تخدم مصالح بعيدة عن اتباع المنهجية الربحية البحتة، فيجب ألا يستغل المغزى من الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للشركة واستقلاليتها في حماية أموال المؤسسين والمساهمين فحسب، بل يجب أن يوضع بسياق خدمة المجتمع بشكل أساسي، وتأسيساً على ذلك، يقف كل من الشخص الاعتباري (الشركة) والشخص الطبيعي على قدم المساواة في خدمة المجتمع، فكما لا يجوز التفرقة بين الأشخاص الطبيعيين - أنفسهم - في تطبيق القانون وخدمة المجتمع بغضّ النظر عن العرق، فلا يجوز التفرقة بين الكائنين الطبيعي والقانوني في تطبيق القانون وخدمة المجتمع أيضاً، وهذا في الأخير ما يجعل القانون كعلم بالفعل ضمن العلوم الإنسانية لتبنيّه السمات الطبيعية للإنسان وأهمّها العرق.

* باحثة دكتوراه في القانون التجاري