السجن الفكري
منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي شهد العالم العربي حركة واسعة للانقلابات على الملكيات، في العراق وسورية ومصر وتونس وليبيا واليمن والجزائر وغيرها، وكان الاعتقاد السائد حينذاك أن الأنظمة الملكية هي سبب تخلف دولنا العربية، لاسيما مع انتشار مظاهر البذخ والتفرد بالسلطة، والعمالة للاستعمار وتغييب المشاركة الشعبية، فراجت مظاهر الابتهاج والتأييد لهذه التغييرات ودخلنا مرحلة جديدة من أنظمة الجمهوريات بدلاً من الملكيات، وظهرت في هذه المرحلة شعارات عديدة مثل الحرية والديمقراطية والإصلاح والوحدة والعروبة والتنمية والاشتراكية والتقدمية. وبعد مضي نحو 70 عاماً على هذه الأحداث لا يمكن أن يختلف اثنان على أن حصاد ذلك كان استئثاراً آخر بالحكم، ونهباً للثروات، وتكالباً على السلطة، وصراعاً مريراً بين أيديولوجيات خاوية وزعامات أنانية، غايتها وتطلعاتها إقصاء الآخر، وتحقيق مكاسب شخصية، وتسجيل انتصارات أيديولوجية وهمية، ورفع شعارات كاذبة، مع إظهار عمالة استعمارية مقصودة، وهو ما أورث تراجعاً مريعاً وتخلفاً رهيباً في أحوال وشؤون دولنا المختلفة، وفِي مقدمتها تلك التي غيّرت أنظمتها الملكية للجمهوريات الزائفة.
وضاعت كل الآمال والطموحات، فانتشر القهر والظلم بصورة أسوأ، وهيمن الاستبداد، وحوصرت الحريات، وتآكلت الدولة والمؤسسات، ونُهِبت الثروات، وفُتِحت السجون، وبرزت التصفيات والاغتيالات، وغُذيت العصبيات، كل ذلك تم باسم الوطنية أو القومية أو التنمية والاشتراكية، والحقيقة كانت مُرة ومخزية ووبالاً من العواقب الوخيمة. والمعضلة الحقيقية لكل ما آلت إليه أحوال دولنا هي الصراع الأيديولوجي الخاوي الذي تفننا فيه، وأشعلنا من خلاله ناراً أحرقت المشروع الوطني، وفتتت ثوابت الوحدة الوطنية، وأهدرت ركائز العمل الوطني المشترك، فقد أعمت حالة السجن الفكري وأغلال التعصب الأيديولوجي البصائر والعقول والقلوب، وراح كل فصيل يتغنى بمكاسب وانتصارات حزبية ضيقة، والواقع المؤلم أن الكل كان خاسراً بعد أن صار عبداً لسجنه الفكري، والأخطر هو ضياع الدولة ومشروع الوطن، وتآكل المؤسسات والثروات، وما زلنا نعيش المراهقة الفكرية والطفولة السياسية، ونضيّع أوطاننا من خلال الصراع الأيديولوجي البغيض، والانغلاق الحزبي، والسجن الفكري، فلم نجنِ إلا الخراب، ولَم ننتج غير جلد الوطن وتدميره.إننا اليوم بحاجة ملحة إلى جيل يدرك أسباب ما آلت إليه دولنا ومعطياته، جيل يُؤمن بالاختلاف، ويتسامى على التعصب الفكري، ويتبنى ثقافة الحوار، ويجتث نزعة الإقصاء والتفرد، جيل يفرض التغيير بإرادة وطنية متجردة لا تنحاز لغير الوطن ورفعة شأنه، ويكسر كل نوازع الفرقة والتشرذم الوطني بتحرير نفسه وشعبه من أغلال الأيديولوجيات الخاوية وسجن الفكر العبثي، جيل يكون بطانة صالحة للحاكم تعينه على الخير وترشده للحكم الرشيد، وتنصحه بالتخلي عن الأسباب والمبررات التي تؤدي لانهيار الدول واضمحلالها كما يشير ابن خلدون، وهو يتطلب حكماً رشيداً وإشراكاً حقيقياً للشعب في إدارة شؤون دولته، ومحاربة الفساد والتجار المتمصلحين، حتى يكون مشروع الوطن- بحق- يسمو على الجميع.