مع أن بيانات الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2020/ 2021 أظهرت عجزاً مالياً مفترضاً بواقع 9.2 مليارات دينار، فإن ذلك يمثل جانباً محدوداً من حقيقة العجز على الصعيد الاقتصادي.فما كشفته الميزانية من عجز يمكن تغطيته كله أو جزء منه في حال ارتفاع أسعار النفط عن سعر الأساس الذي بُنيت عليه حسابات الميزانية عند 55 دولاراً للبرميل، غير أنه ـــ أي العجز المالي ـــ يكشف عن عجوزات أخرى تتعلق بالاقتصاد، وتحديدا جميع ما يعرف بسياسات الإصلاح الذي تبناها عدد من الحكومات السابقة، وخصوصا بعد أزمة أسعار النفط عام 2014، وهو أمر يمكن قراءته بشكل أعمق عند تحليل بنود الميزانية وربطها باختلالات الاقتصاد الرئيسية.
عجز فرص العمل لا المرتبات
فمثلاً، لا يمكن قراءة تنامي بنود "المرتبات وما في حكمها" إلى 12.077 مليار دينار، بنسبة 93.5 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية، إلا من خلال عجز متراكم عولت عليه مجمل سياسات الإصلاح الحكومية في خلق بدائل وظيفية للشباب الكويتيين في القطاع الخاص أو حتى في المشروعات الصغيرة والمتوسطة أو الشركات الأجنبية العاملة في الكويت، كما أنه يثير تساؤلات حول مدى رغبة الحكومة في التوظيف بالقطاع العام خلال هذه السنة، لأن نسبة نمو باب المرتبات عن السنة المالية 2019 - 2020 لم تتجاوز 0.7 في المئة مقابل 5 في المئة نمواً عن العام قبل السابق أي عام 2018-2019 و2.6 في المئة عن عام 2017 -2018.بالطبع، مطلوب من الناحية الاقتصادية أن تتخلى الدولة عن توظيف الشباب في القطاع العام، لكن بشرط خلق فرص عمل لهم في نظيره "الخاص"، وإلا فستتحول المسألة إلى أزمة بطالة، وهو ما سيتطلب في مقبل الأيام إيضاحات أكثر من وزارة المالية حول أسباب تراجع نمو قيمة باب المرتبات مقارنة بأي سنة أخرى.عدالة الدعوم
وتمتد قصص عجوزات الاقتصاد إلى بند الدعوم في الميزانية، وهو اكبر بنود الإنفاق نمواً - بعد استبعاد حساب العُهد - بما يوازي 3.965 مليارات دينار، أي 17.6 في المئة من إجمالي الإنفاق العام، وهو يبين عجزاً في معالجة مسائل عدالة الدعوم في المجتمع ومدى استحقاقها لكل المستفيدين منها، وخصوصاً في جانب خلطها ما بين دعم المواطنين ودعم الشركات والمصانع والمجمعات التجارية والعقارية الضخمة، وهو ما يتطلب إعادة قراءة هذا البند، وتوجيهه بشكل صحيح إلى مستحقيه، فضلاً عن إعادة هيكلة التركيبة السكانية بشكل اقتصادي، كي مثلاً، لا تستنزف تجارة الإقامات والعمالة الهامشية جانباً مهماً من موارد أو أموال الدولة بلا عائد تنموي.حصافة الإعداد
ويتضح من آلية إعداد الميزانية أن وزارة المالية، التي ترفع شعار "منظمة حكومية عصرية أكثر احترافية"، لم تعمل بمقتضى شعارها، إذ لم ترشّد ما يمكن وصفه بـ "المصروفات غير الضرورية"، التي تجاوزت قيمتها العام الماضي 1.4 مليار دينار أي 6.8 في المئة من إجمالي المصروفات وتتعلق بالإنفاق على مناحٍ يمكن مراجعتها أو ترشيدها أو إلغاؤها، مثل ما يعرف بالمصروفات المتنوعة والخاصة والأنشطة المختلفة والمؤتمرات وبرامج التدريب والمهمات الرسمية وقيمتها 43 مليوناً إيجارات المباني الحكومية وتكاليف الضيافة والحفلات، حتى العلاج بالخارج الذي حول خدمة مهمة إلى أداة انتخابية، أو مصروفات تأمين المتقاعدين التي كان من الأجدى توجيهها نحو تنمية القطاع الصحي، وهذه كلها مصروفات تبين أن أسلوب إعداد الميزانية لم يتوخَّ الحصافة في الترشيد المالي إلى حد كبير.كفاءة «الاستثماري»
حتى آلية التعامل مع الإنفاق الاستثماري المرتبط بالمشاريع لم تلامس أصل المشكلة التي ينظر إليها وفق اعتبارات نمو أو نقصان هذا البند في الميزانية، مع أن المطلوب أن تكون المراجعة لهذا البند فيما يقدمه، بعد إنفاق ما تجاوز 3.57 مليارات دينار، للاقتصاد من فرص عمل أو إيرادات غير نفطية للدولة أو خدمات متطورة للبنى التحتية، فالإنفاق بحد ذاته ليس هدفا والأفضل تصفيره اذا لم يكن معالجاً لأزمات الاقتصاد.«بياعين نفط»
ولعل الإيرادات غير النفطية تعتبر مقياساً حساساً لضعف أو كفاءة النشاط الاقتصادي بالنسبة إلى الإدارة الحكومية، إذ سجلت في جانباً منها 12.7 في المئة فقط من إجمالي الإيرادات "تغلق نهاية العام في العادة بالحساب الختامي عند 9 في المئة"، والأسوأ من ذلك أنها سجلت تراجعاً عن العام الماضي بواقع 3.8 في المئة، بمعنى أن الدولة تتوقع تراجعاً في عائداتها من النشاط الاقتصادي، مع أن الإيرادات غير النفطية هي التي تبين قدرة الدولة على تحصيل الرسوم والضرائب من الأعمال، ومدى كفاءتها في لعب دور صانع سوق لتحفيز الابتكار والاستثمار في الاقتصاد أو لعب دور "بياعين نفط" والدوران في فلك سعره دون إبداع أو قدرة على التحكم فيه.قتال وثقة
غير أن أهم عجز قدمته وزارة المالية في عرضها للميزانية، تمثل في مشهدين يهبطان بأسهم أي تفاؤل بشأن المستقبل، الأول تمثل في تصريح وزيرة المالية د. مريم العقيل بأن "الحكومة ستقاتل لإقرار قانون الاستدانة في مجلس الأمة"، وكان الأولى أن تقاتل في سبيل الإصلاح الاقتصادي، حتى لو تطلب الأمر التضحية بمناصب زائلة بدلاً من قانون استدانة يزيد هامش اقتراض الدولة لتغطية نفقات استهلاكية وغير رشيدة ومنفلتة، أما الثاني فتجسد في تصريح وكيل وزارة المالية المساعد لشؤون الميزانية العامة عبدالغفار العوضي بأن "دراسة إعادة تسعير رسوم الخدمات الحكومية وصلت إلى طريق مسدود؛ لأنها لم تجد قبولاً شعبياً"، وهي في حقيقتها شهادة بعدم ثقة المواطنين بحكومتهم ولا إدارتها المالية، فضلاً عن عجز وزارة المالية التي تقدم نفسها كمدير مالي للدولة في ابتكار حلول اقتصادية تلقى تجاوبا من المجتمع.