عندما يبهت حتى الحنين
لم تنظر في عينيه وصافحته ببرودة شديدة وابتسامة باهتة تشبه تلك اللحظة، استشف رأسا مدى المسافة التي أصبحت بينهما، وبطريقته الذكيه جداً حوّل الحديث للكلام العابر، ذاك الذي يدور بين شخصين غريبين يلتقيان للمرة الأولى، سأل عن حالها وعن وضعها في العمل، ثم عرّج على صحتها، أسئلة جامدة كملامح تلك اللحظة، لم تملك سوى أن تعيد إرسال أسئلته نفسها إليه بإضافة موضوع الأولاد، وأين أصبحوا في التعليم والعمل، الأمر الذي يخشى هو سؤالها عنه، وكأنه يريد أن يهرب من أن أولادها كان بإمكانهم أن يكونوا أولادهما لو... ولو... ولو. بقيت كثير من الكلمات محبوسة في حنجرتها، كانت قد أعدت الكثير لتلك اللحظة، وبالتحديد منذ أكثر من سنتين، أي المسافة التي مرت منذ لقائهما الأخير الذي لم يكن مخططاً له أبداً، سرحت بعض الشيء وهو يحاول أن يبدو وكأنه مهتم بمستقبلها الصحافي وحتى المهني، وردد "أستطيع مساعدتك للوصول إلى منصب أعلى من الذي أنت فيه"، فرددت بأدب مصطنع "شكراً شكراً"، وعندما كرر العرض رفضته بنبرة حسمت وأنهت فيه هذا الطرف من المحادثة. بدا وكأنه يبحث عن الكلمات، يناضل من أجل أن يبدو ذاك الذي كان قبل أكثر من ثلاثين عاما عندما التقيا بمصادفة شديدة أيضاً، وكان أن عمل جهده ليعرب لها عن إعجابه الشديد بكلمات هي الأولى التي سمعتها من رجل منذ مدة طويلة، ومنها تقطعت اللقاءات حتى أنها انقطعت بعد أن تغير موقفه من أنه منفصل عن زوجته، وأنه يريد فقط أن يبقي الصلة من أجل أولاده، إلى أن جاء صوته عبر الهاتف وبعد فترة بدت طويلة، وهي في انتظار أن تسمع صوته، فأخبرها وبشكل عابر أنه قد عاد لها، أي لزوجته "من أجل الأولاد"، قال وكرر تلك الدعابة حتى صدقتها هي، وتعاطفت معه لأن أطفاله قد أصيبوا بصدمة حسب تعبيره.
رحلة الكذب تلك لم تتوقف، بل استمرت أعواماً حتى عندما قلت المكالمات واللقاءات وانفصلا، إلا فيما يلتقيان مصادفة هنا وهناك، ويحاول هو أن يعيد ذاك الذي كان، ويردد أنه لم يحب غيرها، بل يقسم أنها حبه الحقيقي الوحيد، لفترة طويلة جدا جدا صدقته وعاشت له ومن أجله، حتى لو لم يكونا على تواصل، ابتعدت عن الكثيرين رفضت حتى المحاولات البائسة، ضحكت من ذاك الذي عرف بتعلقها، بل عشقها للرجل البعيد الذي يظهر كما أقواس قزح، ورددت لا يهم أن تنتهي كل قصة حب بالزواج، ربما أقنعت نفسها بوحدتها، وكذلك باستمتاعها بها، وبأن هناك من يفكر فيها في كل لحظة حتى وهو بين أسرته. أيقظها من سرحانها ذاك قائلاً: أين أنت كأنك حلقت بعيداً ماذا يشغلك؟ تحدثت عيناها عن مخزون سنين، فلم تملك إلا أن علقت ببضع كلمات فهم منها أنها لم تعد مهتمة بما يقول، عاد هو للأسطوانة القديمة نفسها بمدى حبه، وكيف أنه "حمار" لأنه لم يتزوجها، وأنه يريد أن يقضي ما تبقى من عمره معها!!لم تتمالك غضبها ورددت "ممكن أن ننهي هذه القصة السخيفة بعد ثلاثين سنة بشيء من الكرامة والاحترام"، ربما لم يصدق أنها، هي تلك المتسامحة المتفهمة الناضجة صاحبة القلب الكبير، ستتحول إلى هذه السيدة! أعجبت بنفسها أنها حولت كل ما يقوله إلى وصلة من السخرية عليه، وحتى على كل ما يقول، طارت العبارات من دماغها، كل تلك الساعات التي رسمت فيها سيناريوها واضحا لما ستقول في أول فرصة لأول لقاء، ولكنها لم تحزن، لأنها المرة الأولى التي لم تضعف، بل أحست أنها تريد أن تغادر المكان، ترجاها أن يبقيا سوياً وأن يدعوها على العشاء كما كان يفعل أيام زمان، إجابتها كانت النفي، والنفي، مستعجلة أنا، لم يتمالك نفسه من أخذ نفس عميق، والتحلي ببعض الصمت عندما فهم أنه ليس لديها موعد آخر، تريد فقط أن تتناول الطعام دونه، وأنها أصبحت أكثر استمتاعا مع نفسها من أن تتحمل ساعات طويلة من النفاق. أصرت على الرفض وهو أصر على المحاولة، خرج معها وهي تملأ رئتيها برائحة الانتصار لنفسها حتى لو بعد حين، ولم تتذكر إلا مقطعاً من تلك الأغنية "كنت بخلص لك في حبي بكل قلبي"، عندما تلاقى الثلاثة العمالقة أم كلثوم، وعبدالوهاب محمد وبليغ حمدي... كم كانت جلسة مملة، كما كانت لحظة باهتة.