كل إنسان يدفع ثمن قراراته من سنوات عمره أو مواقفه أو مستقبله، ورغم أنه لا قيمة للمال إذا ما وضع في الميزان أمام المبادئ، لكنه قد يصبح وقود النار التي تأكل علاقات وروابط اسرية راسخة. هذا هو الإطار العام الذي تدور حوله أحداث مسرحية "الثمن" التي خط أحداثها الكاتب الأميركي آرثر ميلر عام 1968، وعاد الكاتب المخضرم عبدالعزيز السريع ليلبس النص ثوبا كويتيا عام 1988 قبل ان يعلن مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي عن إعادة إحياء تجربة السريع لتعرض ضمن فعاليات الموسم الثقافي بحلة جديدة."الثمن"، التي بدأت عروضها مساء الخميس الماضي، من بطولة الفنان السعودي عبدالله السدحان، إلى جانب الفنانين ناصر كرماني وفاطمة الطباخ وشهاب جوهر من الكويت، وديكور فاطمة القامس وموسيقى جاسم العبدالسلام ومكياج عبدالعزيز الجريب وإشراف عام منقذ السريع.
دلالات فكرية
وربما السؤال الذي لاح في الأفق بمجرد أن أعلن مركز جابر عن تفاصيل العمل ومشاركة الفنان السعودي عبدالله السدحان في بطولته هو: ماذا استفز السدحان في العمل وما الشخصية التي سيجسدها؟ لم ننتظر طويلا لنحصل على إجابة، وفي تمام الثامنة والنصف من مساء الخميس رفع ستار مسرح الدراما عن ديكور مميز لمنزل يعود إلى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وكان واضحا الاهتمام بأدق التفاصيل، وبالحالة التي يفترض أن يكون عليها الأثاث، ليبدأ العمل بمشهد افتتاحي حمل دلالات فكرية عدة لنتعرف على واقع منصور الذي جسد شخصيته ناصر كرماني، وهو رجل على مشارف الستين من العمر بدأ رحلته في الحياة شرطيا، وطارد حلمه على مدار سنوات، إلى ان تقلد أخيرا رتبة ملازم، وها هو يستعد للرحيل عن عمله، بينما زوجته وسمية التي لعبت دورها فاطمة الطباخ، ومن خلال حوارهما ندرك ماهية القضية، حيث يعود منصور للمنزل ليبيع إرثه من والده، وهو أثاث المنزل، ولكنه يواجه معضلة عدم رد شقيقه الأصغر والذي يجسد دوره شهاب جوهر، وبين حوارات أغلبها استعراض للماضي وكشف طبيعة العلاقة بين شخوص الأسرة الثلاثة يظهر لنا الدلال "بوسليمان" تاجر الأثاث، الذي لعب دوره ببراعة الفنان عبدالله السدحان، وليحمل معه الإجابة عن السؤال: لماذا السدحان؟ وماذا استفزه ليشارك بالعمل؟العنصر الأهم
لقد فطن المخرج الحشاش إلى أن العمل يعتمد في الأساس على حوارات الممثلين، فكان اشتغاله بصورة كبيرة على العنصر الأهم في لعبته المسرحية، وتجلى مدى اتقان نجوم العمل لأدوارهم من خلال الحوارات المصحوبة بانفعالات مدروسة، وتدور الأحداث في مكان واحد وهو منزل الأسرة، وزمان واحد لذلك تتقلص قدرة المخرج على توظيف أدواته الأخرى لترجمة رؤيته، ويتبقى له فقط التمثيل، ولأن الحوار بين الشقيقين يمر بمنعطفات كثيرة؛ صعودا حيث عندما يصل الصراع ذروته، ونزولا عندما تتدخل الزوجة وسمية لتقرب بينهما، كان لابد ان تغرد شخصية تاجر الأثاث "بوسليمان" خارج السرب، لذلك استحضر السدحان شخصية "أبو مساعد" التي قدمها من قبل في اعمال مختلفة، ذلك العجوز الذي شارف على الـ90 من عمره ولكنه يتمتع بذكاء ومكر لا ينافسه فيهما أحد، وبطبيعة الحال هذا التكوين الجسدي وطريقة الأداء مع الحوارات التي صاغها السريع برشاقة ساهمت في تقديم كاراكتر مميز يكسر حدة التوتر في الحوار الثلاثي بين أبطال العمل عندما يجتمعون.تميز السدحان في شخصية "بوسليمان"، بينما قدم ناصر كرمان أداء متزنا رزينا يتسق وطبيعة منصور، أما شهاب جوهر فلبس بمهارة دور الشقيق الأصغر، وكانت فاطمة الطباخ بدور وسمية همزة الوصل بين الشخصيات الثلاث، حيث قدمت أداء يمكن وصفه بالسهل الممتنع، نماذج مختلفة وشخوص لا يجمع بينهم سوى المكان.أبرز المشاهد
ولعل من أبرز مشاهد المسرحية كان اللقاء الذي جمع بين بوسليمان ومنصور، حيث افضى كل منهما بما يدور في نفسه للآخر، ورغم تأرجح الحوار ما بين الجد والكوميديا، إلا أنه كان كاشفا عن جانب مهم في شخصية كل منهما وقناعتهما في الحياة، أيضا مشهد الختام عندما يدرك الشقيقان أنه لا مجال للقاء الفكري، وأن الخلاف الذي نشب بينهما بسبب قناعتهما المختلفة في الحياة سيبقى أثره في النفس، وهنا يرحل الجميع ويظفر بوسليمان بالأثاث.وتدور الأحداث حول ميراث عائلي "أثاث" يعرض للبيع، بعد وفاة رب الأسرة، وتناقش المسرحية القيمة المادية والمعنوية لقطع الأثاث، في سياق سقوط الروابط العائلية، ويسلط العمل الضوء على القرارات التي يتخذها شقيقان والصراع الناشئ بينهما بسبب اختلاف توجهات كل منهما ورحلتهما في البحث عن السلام مع الماضي والأمل في المستقبل. وتتميز المسرحية بأن أحداثها تدور في مكان واحد وزمان واحد حيث تتناول العلاقة بين شخصياتها الأربع من خلال الحوار الكاشف عن أبعاد تلك الشخصيات وقيمها ومنطلقاتها، ويتعاطى العمل مع تحليل العلاقات العائلية، والتمعن في تأثير الماضي في الحاضر، كما يطرح مسائل عدة مثل الشعور بالذنب والمسؤولية، وكيف تسقط الروابط الأسرية فريسة أمام أطماع النفس البشرية.العرض الأول
وعرضت المسرحية للمرة الأولى عام 1988 على مسرح الدسمة، في افتتاح الدورة الأولى لمهرجان الفرق المسرحية الأهلية الشابة التابعة لدول مجلس التعاون الخليجي، وأخرجها حينها المسرحي الراحل فؤاد الشطي، ولم تصور للتلفزيون، وقدا اختار الكاتب عبدالعزيز السريع في معالجته للنص الأصلي إلباسه الثوب الكويتي، بحيث تسقط أحداثها على واقع المجتمع المحلي، وحظيت المسرحية آنذاك بأصداء إيجابية، ولكنها لم تقدم للعرض العام بسبب تزامن عرضها مع حادث اختطاف طائرة الجابرية، ونظرا إلى أهمية المسرحية بين أعمال آرثر ميلر من جهة وإلى موضوعها الرئيسي الذي مازال صالحا لتسليط الضوء عليه في الوقت الحالي من جهة أخرى رأى السريع إعادة عرضها، برؤية إخراجية جديدة ومع فريق مختلف من الممثلين.ويعتبر آرثر ميلر واحدا من أعظم الكاتب المسرحيين الأميركيين في القرن العشرين وأحد عمالقة رموز الأدب والسينما الأميركية على مدى 61 عاما. في بداية التحاقه بجامعة ميتشغان اختار ميلر تخصص الصحافة ثم انتقل إلى الأدب الإنكليزي فحصل على درجة البكالوريوس في عام 1938، وخلال فترة دراسته كتب أول مسرحية له بعنوان NO VILLAIN وفاز عنها بجائزة، وأنتج ميلر الكثير من الأعمال في جميع فروع الكتابة، من المسرح إلى الروايات والقصص القصيرة والمقالات والشعر والنثر. وفي عام 1968 كتب مسرحية "الثمن" التي تعد واحدة من أنجح مسرحياته، التي تشمل أيضا "كلهم أبنائي" و"موت بائع متجول" و"البوتقة".السريع: المسرحية تحمل رسالة إنسانية معاصرة
يرى الكاتب عبدالعزيز السريع أن أهمية مسرحية "الثمن" تأتي من أن موضوعها لا يقتصر على زمان أو مكان محددين، ويعتبر حضورها فرصة لمن يحب المسرح النوعي، الذي يخاطب عقل الإنسان ووجدانه، فضلاً عن تسليطها الضوء على صراع الإنسان مع نفسه وغيره، وصراعه مع البيئة المحيطة به والغيبيات، ويرى أن المسرحية تتحدث عن البون الشاسع بين الطبقات المحدودة الدخل والطبقات الثرية وطغيان المادة على حياة الإنسان.وتحمل المسرحية رسالة إنسانية اجتماعية معاصرة للمجتمع الكويتي، حيث تخاطب هموم المواطن وقضاياه وعلاقاته الاجتماعية المعقدة.ويرى الكاتب السريع أن أهمية "الثمن" تأتي من أن موضوعها لا يقتصر على زمان أو مكان محددين، ويعتبر حضورها فرصة لمن يحب المسرح النوعي الذي يخاطب عقل ووجدان الإنسان، فضلاً عن تسليطها الضوء على صراع الإنسان مع نفسه وغيره وصراعه مع البيئة المحيطة به والغيبيات.وعن سبب اختياره مسرحية الثمن لتكون ضمن أعماله العديدة، سواء التي قام بإعدادها أو كتابتها، يقول السريع "إن المسرح الاجتماعي الذي يبحث هموم المجتمع يروق لي"، مضيفاً أن لدى آرثر ميلر-الذي يعتبره ملك المسرح الاجتماعي- مسرحيات منها "بعد السقوط" و"كلهم أبنائي" و"موت بائع متجول"، لكنه اختار "الثمن" لأنها الأقرب لمعالجة قضايا تهم المجتمع في الكويت بشكل خاص، والوطن العربي بشكل عام.وحول المواضيع التي تدور حولها المسرحية، يقول إنها مسرحية تعالج هموم الإنسان والمواطن وتناقش فكرة مألوفة، كيف يتم استغلال الإنسان الضعيف، وكيف يزداد الغني ثراء، بالإضافة إلى أنها تتطرق إلى الاحتكار وسيطرة رؤوس الأموال على مفاصل الحياة، وكيف يجر الاستهلاك الإنسان البسيط محدود الدخل أو العامل.من زاوية أخرى، يرى السريع أن المسرحية موجهة بشكل خاص إلى الأجيال الشابة أكثر مما هي موجهة إلى الأجيال السابقة.