عندما صوّت أعضاء البرلمان العراقي في وقت سابق من يناير الجاري لمصلحة إخراج القوات الأميركية من البلاد، جاء رد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سريعاً وقوياً، مؤكداً رفض ذلك الانسحاب، وهدد بخطوات مالية انتقامية تشمل تجميد حسابات العراق المصرفية في مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي «البنك المركزي».ويبدو أن ذلك التهديد كان فعالاً على الرغم من استمرار استياء المسؤولين العراقيين من الضربة التي وجهتها الطائرات المسيرة الأميركية وقتلت أحد كبار القادة العسكريين الايرانيين في مطار بغداد في الثالث من الجاري.
وكان رئيس حكومة تصريف الأعمال العراقية عادل عبدالمهدي، صرح بعد ذلك بأن حكومته لا تملك سلطة الضغط لتنفيذ الانسحاب الأميركي، كما أن القوات الأميركية استأنفت العمليات المشتركة مع القوات العراقية. ولكن ذلك الشعور بعودة الأمور إلى طبيعتها كان مخادعاً، لأن القوات الأميركية موجودة في العراق بدعوة من حكومة بغداد بغية المساعدة على محاربة تنظيم «داعش»، وقد حول رفض ترامب سحب تلك القوات العلاقة مع العراق إلى خيار إكراه – كما أن قيام واشنطن بتلك الخطوة كان يعني حرمان حليفها من مصادر دخل حيوية، وربما تفضي إلى حدوث أزمة مالية وانهيار اقتصادي في العراق.وتعتبر هيمنة واشنطن على الاقتصاد العراقي مثالاً صارخاً على اتجاه أوسع وأكثر إثارة للقلق، ويشمل استخدام الولايات المتحدة دورها المتميز بشكل متكرر على شكل حامية للنظام المالي العالمي من أجل إرغام ومعاقبة من يعترض على طرقها في العمل سواء من الأصدقاء أو الأعداء. وكانت واشنطن «اغتصبت» بصورة بطيئة النظام الذي كان يهدف إلى توفير فوائد إلى العالم كله، وجعلته أداة من أجل تحقيق أهدافها الجيوسياسية بصورة واضحة.وتتبع الولايات المتحدة في تحويل علاقاتها المالية أداة إمبراطورية طريقة «أثينا» القديمة التي استخدمت القوة المالية من أجل الإساءة إلى حلفائها، لكنها سرعت من خلال ذلك في دمارها – وتواجه الولايات المتحدة خطر الوقوع في المستنقع نفسه.
تسليح التمويل
وكما كان الحال مع «أثينا» القديمة أقامت الولايات المتحدة والدول الحليفة لها ما يعرف باسم النظام المالي العالمي، الذي يشتمل على تعقيدات تأسيسية، ومنها شبكة المراسلات المالية التي اشتهرت باسم «سويفت» وهو نظام مقاصة دولارية ينطوي على قيام مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي بتوفير سيولة دولية في أوقات الأزمات، وتسمح هذه الترتيبات للدول بتدبير وإدارة ثرواتها ضمن مستويات غير مسبوقة من التنسيق والأمان.وكانت واشنطن أول دولة حصدت فوائد ضخمة من هذه الترتيبات عبر دورها المركزي في التمويل العالمي وهيمنة الدولار، كما استفادت دول أخرى أيضاً من حصولها على مركز موثوق لحفظ أموالها بصورة آمنة في البنك المركزي الأميركي. وتأكد ذلك خلال الأزمة المالية العالمية عندما تم السماح للبنوك المركزية الأجنبية بتوفير الدولارات إلى مؤسساتها المالية الضعيفة. وعلى أي حال، حرصت الولايات المتحدة خلال العقد الماضي على استخدام قوتها الواسعة في النظام المالي من أجل تحقيق غاياتها الخاصة. ولم تعد الولايات المتحدة تحاول إرغام خصومها على الخضوع عبر حرمانهم من الوصول إلى الأسواق والشركات الأميركية، وقد عمدت بدلاً من ذلك إلى فرض عقوبات ثانوية تحرم تلك الدول من الوصول إلى النظام المالي العالمي نفسه. ونتيجة لذلك، تحرص تلك الدول على عدم إغضاب الولايات المتحدة التي تستطيع فرض غرامات عقابية عليها بمليارات الدولارات وبالتالي سمحت لواشنطن أن تضغط على المؤسسات المالية في جميع أنحاء العالم ودفعتها إلى عدم التعامل مع شركات أو أفراد وحتى مع دول فرضت العقوبات الأميركية عليها. وأصبحت هذه الطريقة الخيار المفضل بالنسبة إلى الولايات المتحدة في معالجة طائفة من القضايا مثل عدم الانتشار وحقوق الإنسان وتغيير الأنظمة. وشهد بعض الدول المعادية للولايات المتحدة مثل إيران انهياراً في اقتصادها ولكن ذلك انسحب أيضاً حتى الدول الأوروبية التي لم تذعن للعقوبات الأميركية واضطرت إلى دفع مليارات الدولارات إلى السلطات الأميركية من أجل تفادي التحول إلى دول منبوذة في الاقتصاد الدولي.بناء الإمبراطورية المالية
كانت الولايات المتحدة تعمد في المراحل الأولى من بناء هذه الإمبراطورية المالية إلى استشارة حلفائها، وإعطائهم فرصة من أجل الاعتراض على تلك الإجراءات التي تؤثر على شركاتهم. وفي ظل إدارة ترامب، لم تكن الولايات المتحدة ترغب حتى في التظاهر بأنها سوف تذعن للحلفاء الذين يحصلون على مجرد إنذار حول عقوبات مفروضة ربما تؤثر بشكل ما على شركاتهم أو تعطل أهدافهم في السياسة الخارجية. وفي عدد متزايد من الحالات، تعرّض حلفاء الولايات المتحدة إلى سبل إكراه نتيجة العقوبات الاقتصادية الأميركية. وعلى سبيل المثال حذر كبار المسؤولين الأميركيين حلفاء واشنطن في أوروبا بأنهم سوف يواجهون عقوبات ثانوية إذا حاولوا إنقاذ اتفاق ايران النووي الذي تم التوصل إليه عام 2015.وتتبع إدارة ترامب الآن الأسلوب ذاته في جعل الاقتصاد العراقي رهينة لديها. وإذا أجبرت بغداد القوات الأميركية على الانسحاب – وحسب تحذير ترامب – فإن واشنطن سوف ترد بضربة انتقامية لم يشهدها العراق من قبل على الإطلاق.الفخ الحقيقي
وتعتقد إدارة ترامب أن دولاً مثل العراق ليس لديها أي خيار سوى الإذعان للمطالب الأميركية، لأن الدور البالغ الأهمية للدولار يعني أن الولايات المتحدة دولة قوية وأن الدول الأخرى ضعيفة. والضعيف طبعاً سوف يشتكي – وهو ما تفعله الدول الضعيفة دائماً – ولكن الشكوى لن يستمع اليها أحد.وعلى الرغم من ذلك، فإن اعتقاد واشنطن بحتمية دور قوتها قد يفضي إلى خلق الظروف التي تؤدي الى تعثرها. كما أن الكثير من نفوذ الولايات المتحدة الاقتصادي والسياسي يعتمد على ثقة الدول والشركات الأجنبية في أسلوب واشنطن في النظام المالي الأميركي. وإذا تبين أن الولايات المتحدة لاتعمل على إدارة ذلك النظام لمصلحة كل الدول، وأنها تستخدمه بدلاً من ذلك على شكل أداة إكراه واضحة فإن نفوذ واشنطن سوف يتبخر.وفي حقيقة الأمر، فإن تلك العملية قد بدأت فعلاً كما يتضح من عمل تركيا – وهي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي وحليفة للولايات المتحدة وبدافع خشيتها من تأثير العقوبات التي يمكن أن تفرضها الولايات المتحدة – مع روسيا من أجل إقامة أقنية دفع تسمح للتجارة الدولية بالتدفق وذلك في التفاف على النظام المالي الأميركي. كما أن الاتحاد الأوروبي يدرس حالياً كيفية حماية أوروبا من العدوان الاقتصادي الأميركي والصيني.حتى أقرب الحلفاء
وبدأ حتى أقرب الحلفاء مثل المملكة المتحدة بدراسة سبل رفض الطلب الأميركي الداعي إلى حجب شركة هواوي الصينية ومنعها من بناء شبكة اتصالات في القارة. ومن غير المحتمل أن ينهار نظام الدولار لكن الدول والأطراف الأخرى قد تبحث عن بدائل للتبادل يمكن أن تقوضه وتفضي إلى استبداله في نهاية المطاف. ومع تبدد ثقة الحلفاء سوف تضعف قدرة الولايات المتحدة على عرض قوتها حول العالم.لكن طرق الإكراه التي تتبعها الولايات المتحدة أقل شدة من تلك التي اتبعتها أثينا القديمة عندما قتلت واستعبدت سكان المدن التي ثارت ضدها. غير أن سبل واشنطن قد تصبح أكثر تعقيداً إذا فرضت الأمر الواقع عبر احتلال عسكري كما هو الحال الآن في العراق. والصدام مع الحكومات المضيفة في بغداد وغيرها قد يرغم الولايات المتحدة على نشر المزيد من القوات بغية حماية قواتها الموجودة على الأرض – وحتى بالنسبة إلى دولة عظمى فإن استعراض القوة على هذا النحو سوف يكون مكلفاً جداً ومن الصعب تحمله.تستطيع الدول القوية إقامة شبكة علاقات تبرز أهمية نظام اليوم المالي العالمي. كما تستطيع معاملة الدول الأصغر باستعلاء وازدراء وقد طرحت الإدارات الأميركية في الآونة الأخيرة أدوات جديدة للإكراه الاقتصادي لكنها لم تتخيل وجود رئيس يمكن أن يستخدم تلك الأدوات من أجل التهديد بتدمير اقتصاد دول حلف شمال الأطلسي، أو المضي أبعد من تبادل إطلاق نار على الحدود.وبحسب رواية خبير العلوم السياسية غراهام أليسون، فإن الحرب تصبح محتملة عندما تواجه دولة صاعدة دولة مؤسسة وراسخة وهو ما حدث بين أثينا وإسبرطة وربما تحدث اليوم بين الصين والولايات المتحدة. ولكن الفخ الحقيقي الذي يواجه واشنطن أقل حتمية إزاء وقوع نزاع قوى عظمى حول دور القوة الاستعمارية. وكان قرار أثينا القديمة بتحويل كنوزها المشتركة إلى نظام جزية قد عمل على تنفير حلفائها السابقين كما عجل في سقوطها – وقد تكون الولايات المتحدة بدأت في تكرار ذلك التاريخ المظلم.* هنري فاريل وأبراهام نيومان