يُعامل الكرملين ليبيا حالياً بصورة علنية كنقطة مركزية أخرى لأنشطته في الشرق الأوسط. فبعد سنوات من الإهمال الأميركي، تحوَّلت هذه البلاد إلى ساحة حرب بالوكالة، ويتنافس الرئيس فلاديمير بوتين بلهفة ليصبح صانع القرار الرئيسي. ففي وقت سابق من هذا الشهر، حاول دفع خليفة حفتر إلى توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار في موسكو مع رئيس الوزراء فايز السرّاج رئيس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة (لكنه فشل في ذلك). كما شارك بوتين في مؤتمر برلين الذي عُقد في 19 يناير بهدف إعادة توجيه الأطراف نحو الحل السياسي. ومع أن احتمالات هذا الاتفاق لا تزال غير مؤكدة، إلا أن تدخّل موسكو في ليبيا سيستمر بكلتا الحالتَين.
تاريخياً، كان الدخول إلى موانئ المياه الدافئة في شرق البحر الأبيض المتوسط ذا أهمية كبرى بالنسبة للحكام الروس، كجزء من جهدهم لجعل البلاد جهة فاعلة من «القوى العظمى» في السياسة الأوروبية. فخلال «مؤتمر بوتسدام» عام 1945، حاول جوزيف ستالين دون جدوى أخذ الوصاية على إقليم طرابلس في ليبيا. ورغم تلك المحاولة الفاشلة، برزت ليبيا كعميل أسلحة مهم للاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. وفي سبعينيات القرن الماضي، انفتح الدكتاتور معمر القذافي أكثر فأكثر على موسكو، التي وفَّرت آلاف العناصر وكميات هائلة من المُعدات العسكرية لتعزيز أنشطته، بما فيها بناء قواعد صاروخية أفضل.إن كفاح الحالة المتعادلة مع الغرب بشأن تحديد المواقع الجيوستراتيجية والحصول على موارد الطاقة والموانئ يستمر في توجيه تفكير الكرملين اليوم. فقد بدأ بوتين إعادة إحياء العلاقات مع ليبيا بعد فترة وجيزة من توليه منصب الرئيس في عام 2000، وتحسنت هذه العلاقات بشكل ملحوظ بعد لقائه القذافي في طرابلس عام 2008. وبعد فترة وجيزة، ألغت موسكو معظم ديون ليبيا، البالغة نحو 5 مليارات دولار، مقابل عقود تركزت على النفط والغاز والأسلحة والسكك الحديدية. كما منح القذافي للأسطول الروسي إمكانية الوصول إلى ميناء بنغازي.
موت القذافي
بيد أن الحملة بقيادة حلف «الناتو» في ليبيا عام 2011، كلفت روسيا مكانتها، بعدما كانت دخلت منذ فترة طويلة إلى ليبيا وأنفقت مليارات الدولارات على العقود. إلا أن أكثر ما أفزع موسكو هو موت القذافي المروع، والسابقة التي اعتبرها الكرملين «ثورة ملونة» بقيادة الولايات المتحدة. وفي عام 2012، بدأ بوتين جهداً متضافراً لاستعادة إمكانية الدخول إلى ليبيا، وفي الوقت نفسه توسيع القدرات البحرية الروسية بشكل عام. وفي مايو 2013، أي قبل عامين من تدخله في سورية، أعلن بوتين قوة عمل روسية دائمة في البحر المتوسط.وإذا تمكنت موسكو من تعزيز مكانتها في ليبيا على المدى الطويل، فسوف تكسب نفوذاً ملحوظاً على أوروبا، ويُتاح لها الدخول أكثر فأكثر إلى الشرق الأوسط وإفريقيا. وسيكون ميناءا طبرق ودرنة العميقان في ليبيا مفيدَين للقوة البحرية الروسية من الناحيتين اللوجستية والجيوستراتيجية، لاسيما بالاقتران مع طرطوس في سورية. وستشكّل الاستفادة القصوى من موارد الطاقة الواسعة في البلاد إنجازاً بارزاً آخر يمكن أن يفتخر به بوتين.لعبة بوتين في ليبيا
في أكتوبر الماضي، أخبر مصدر مطلع على العلاقة بين حفتر وموسكو إحدى وسائل الإعلام الروسية المستقلة (ميدوسا) ما يلي: «كان يهمنا حينئذٍ (أي عام 2015 تقريباً) عدم وجود عناوين رئيسية مثل (روسيا تواصل التوسع في الشرق الأوسط: ليبيا هي التالية بعد سورية)». إلا أن العلامات التي تدل على تبلور هذا السيناريو بالضبط كانت كثيرة.ووفقاً لبعض التقارير، تَواصل حفتر مع موسكو للحصول على الدعم عام 2015 تقريباً. وفي المقابل، وعدَ بمنح روسيا اتفاقات الطاقة وإمكانية دخول الموانئ التي طمحت إليها. فقبِلَ بوتين العرض، وبدأ يوفر لحكومة حفتر في طبرق المشورة العسكرية، والدعم الدبلوماسي في الأمم المتحدة، وحتى أموالها الخاصة المطبوعة. من جهته، قام القائد بعدة رحلات إلى موسكو منذ عام 2016. وفي يناير 2017، دُعي للقيام بجولة على متن حاملة الطائرات الروسية الوحيدة في طريق عودتها إلى الوطن من المياه السورية. ويعتقد بعض المراقبين أنه وعد موسكو بإعطائها إمكانية دخول إضافية خلال هذه الرحلة. وفي ذلك العام نفسه، نقلت موسكو جواً العشرات من جنود حفتر الجرحى إلى روسيا لتلقي العلاج. وفي نوفمبر 2018، زار حفتر موسكو مجدداً.وخلال هذه الفترة نفسها، بدأت التقارير الصحافية تظهر حول التواجد المتزايد للمدرّبين الروس والجماعات العسكرية الخاصة الغامضة الروسية في ليبيا، وكان ذلك غالباً لحماية أصول النفط وتقديم المشورة. وأخيرا، ذكرت صحيفة موسكو تايمز في وقت سابق من هذا الشهر أن المقاولين الروس الذين يحاربون في ليبيا وسورية تلقوا العلاج في مستشفى مرموق بموسكو يملكه أفراد مقربون من بوتين، من بينهم ابنته. وعلى صعيد الطاقة، بدأ مشروع ليبي وروسي مشترك للنفط والغاز بالعمليات في بنغازي في أبريل الماضي.وفي حين تميل موسكو بشدة نحو حفتر، إلا أنها أقامت روابط أيضاً مع حكومة السرّاج. ويتماشى هذا النهج المزدوج مع استراتيجية بوتين الإقليمية، التي تستلزم إقامة اتصالات مع جميع الجهات الفاعلة الرئيسة، من أجل وضع نفسه كصانع قرار. وقد ساهم رفض حفتر التخلي عن جنسيته الأميركية وسمعته كشريك صعب بشكل عام في مقاربة موسكو المزدوجة أيضاً. من جانبها، انتقدت الجماعات العسكرية الخاصة الروسية أخيرا هذا اللواء، وفي الوقت نفسه، أجرت هذه الشركات حملة علاقات عامة بالنيابة عن أحد خصومه المحليين، وهو ابن القذافي سيف الإسلام، سعياً لتعزيز صورته العام الماضي في سياق حملة سياسية ليبية.استخدام نموذج الجماعات العسكرية الخاصة للوصول إلى الهدفشكَّل الاعتماد المتزايد على الجماعات العسكرية الخاصة كأداة للسياسة الخارجية سمة مميزة لاستراتيجية بوتين في العديد من المجالات. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، أرسلت روسيا مئات من هؤلاء المرتزقة إلى ليبيا، على الأرجح عبر خطوط «أجنحة الشام للطيران» من دمشق إلى بنغازي. ووفقاً لبعض التقارير ظهروا في «قاعدة الجفرة الجوية»، من بين مواقع أخرى.وفيما يتعلق بالقدرات المحددة، تشمل هذه القوات القناصة الذين تسبب وجودهم على الخطوط الأمامية بارتفاع عدد الإصابات في صفوف قوات حكومة الوفاق الوطني. ومن المرجح أن تكون موسكو زوّدتهم بقدرات تشويش الطائرات المسيَّرة بدون طيار. ووفقاً لوكالة رويترز، تعتقد القوات العسكرية الأميركية أن الجماعات العسكرية الخاصة أو الجهات الموالية لحفتر استخدمت أنظمة الدفاع الجوية الروسية لإسقاط طائرة أميركية بدون طيار، ربما عن طريق الخطأ، خارج طرابلس في نوفمبر الماضي. وفي ذلك الشهر، أكد الموالون لحفتر أنهم أسقطوا طائرة إيطالية بدون طيار. ومع ذلك، فإن القدرة على تشغيل نظام دفاع جوي روسي تتطلب مهارات عالية لا تتمتع بها الكثير من الجماعات العسكرية الخاصة، لذلك تشير هذه الحوادث إلى مستوى من التطور ينمو بسرعة على أرض الواقع، وتثير تساؤلات حول المدى الكامل للوجود الروسي هناك.خلال مؤتمر برلين، أكدت الصحافة التي يسيطر عليها الكرملين مكانة بوتين كصانع قرار في ليبيا، حيث قامت بنشر صور للقادة الأوروبيين المتجمعين حوله كما لو كانوا يعوّلون عليه لتلقي التوجيه. وفي الواقع، تبقى قدرة موسكو على التأثير على حفتر موضع شك. ومع ذلك، يمكن أن تستفيد موسكو من العملية الدبلوماسية دون تحقيق تقدم حقيقي.أولاً، إن مشاركتها في محادثات السلام تعزز صورة بوتين، لاسيما في ظل غياب دور أميركي أكبر. ثانياً، إن موسكو معتادة جداً على التخبط في النزاعات التي لم يتم حلها في البلدان الأخرى، فيما تؤمّن موطئ قدم لها وتتمكن من الوصول إلى الموارد - أو تمنع الآخرين (أوروبا بشكل رئيس) من هذه الإمكانية. وثالثاً، تسعى إلى خلق اعتماد على الكرملين، وهي استراتيجية تشمل استخدام احتمال تدفق اللاجئين من ليبيا وعبرها، كوسيلة ضغط على أوروبا. وتُعتبر هذه الجهود- وليس الحل الحقيقي للنزاعات- موطن قوة موسكو.بالإضافة إلى ذلك، في أي وقت تتوقف ليبيا عن إنتاج النفط، سترتفع الأسعار العالمية، مما يعود بالفائدة على الكرملين. وبالفعل، ارتفعت أسعار النفط أخيرا إلى 65 دولاراً للبرميل الواحد، ويُعزى ذلك جزئياً إلى قيام حفتر بإيقاف الإنتاج عشية محادثات برلين.وأعاد المؤتمر أيضاً التأكيد على الالتزام الدولي بحظر الأسلحة على ليبيا. ومع ذلك، من الصعب التصديق بأن مثل هذه الإعلانات ستمنع روسيا أو الجهات الفاعلة الأخرى من إرسال الأسلحة إلى حلفائها المحليين هناك.أخيراً، قد يكسب بوتين، بفضل مكانته في ليبيا وسورية، تأثيراً إضافياً على تركيا. فإذا اشتدت عدائية أنقرة في ليبيا كثيراً، فبإمكانه الضغط عليها في سورية، مما يثير احتمال زيادة الارتباط بين الأنشطة الروسية على كلتا الجبهتين في الأشهر المقبلة.باختصار، تستفيد موسكو من البقاء ببساطة في ليبيا ومن تأمين دخولها عبر الجماعات العسكرية الخاصة. لذا يجب أن تبحث الولايات المتحدة وحلفاؤها عن سبلٍ لكبح أنشطة هذه الجماعات الروسية. وفي النهاية، فإن واشنطن هي الوحيدة التي لديها نفوذ كافٍ للتوصل إلى حلٍّ حقيقي للنزاع الليبي الأخير.* آنا بورشفسكايا