الخلافة الإيرانية وتداعيات مقتل سليماني
بعد اغتيال قاسم سليماني، انصبَّ التركيز بشكل كبير على العمليات الخارجية التي ينفذها «فيلق القدس»، التابع لـ»الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. غير أن الفيلق لعب دوراً بارزاً في الداخل أيضاً، لكن مستقبله لم يعد واضحاً حالياً. وعلى وجه الخصوص، كان سليماني نفسه في موقع جيد يخوّله أن يكون شخصية جامعة توفر الاستقرار ما إن تواجه إيران التحدي المتمثل في تعيين خلف للمرشد الأعلى علي خامنئي.بنظر المرشد الأعلى، كان سليماني مثالاً يحتذى به حول الطريقة التي ينبغي لقائد عسكري التصرف بها مهنياً وسياسياً. فخامنئي لم يكن يثق بأي قائد بارز آخر، وهذه حقيقة كانت واضحة في المعاملة التفضيلية التي كانت تُمنح لسليماني في كثير من الأحيان.على سبيل المثال، عندما تسلَّم خامنئي السُّلطة في عام 1989، اعتمد سياسة جديدة تقوم على تحديد مدة الخدمة الفعلية في المراكز العسكرية والسياسية، بما في ذلك المنصب الأعلى في «الحرس الثوري» الإيراني، الذي تم تحديده بعشر سنوات. ولم يكن خامنئي يُعتبر خلفاً طبيعياً لروح الله الخميني، وافتقر إلى المؤهلات الدينية والجاذبية التي كان يتمتع بها القائد المؤسس، لذا كانت إعادة تشكيل التسلسل الهرمي العسكري بحذر بين الحين والآخر وسيلة بديلة لتوطيد سُلطته وترسيخها. وحتى اليوم، في وقت يتمتع بصلاحية شبه مطلقة، يساهم تناوب المراكز بين العناصر من ذوي الرتب العليا والمتوسطة في منع القادة من تشكيل دوائر سُلطة وتحالفات خاصة بهم. غير أن سليماني شكَّل حالة استثنائية لهذه القيود المفروضة على مدة الولاية، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أنه كان ينحدر من مجموعة صغيرة من قادة «الحرس الثوري» الذين كانوا مقرَّبين من خامنئي أكثر من خصومه خلال المرحلة الانتقالية (بعد وفاة) آية الله الخميني. وفي أعقاب تعيين سليماني كقائد لـ»فيلق القدس» في عام 1997، بقي في هذا المنصب إلى حين مقتله، بعد أكثر من عشرين عاماً.
ولم يكتسب سليماني مكانته المميَّزة هذه فقط بسبب ولائه لخامنئي منذ البداية وإنجازاته العسكرية اللاحقة. فبخلاف الأغلبية الساحقة من ضباط «الحرس الثوري» الإيراني، تجنب أيضاً الانخراط في الأنشطة الاقتصادية والسياسية، وبدلاً من ذلك عاش حياة متدينة بحتة. وبفضل هذه السمات كان محبباً إلى خامنئي، الذي غالباً ما أشار إلى الجنرال و»فيلق القدس» الذي يرأسه على أنهما دليل على أن استراتيجية «المقاومة» كانت فعَّالة أكثر من المقاربة الدبلوماسية التي يفضلها الرؤساء الإيرانيون. وتميَّز سليماني بانتهاج هذه الاستراتيجية من دون الإدلاء بتصريحات علنية، سواء داعمة للسياسات المتشددة، أو مناهضة لمسؤولين منشقين، حتى خلال الدورات الانتخابية الساخنة. وتعذَّر على مراكز القوة النافذة التأثير عليه- فكان يتلقى الأوامر مباشرة من المرشد الأعلى، وكان مسؤولاً أمامه فقط، لذا لم يكن مهتماً بما أراده رؤساء البلاد أو المسؤولين الآخرين. فالشخص الوحيد الذي كرر ولاءه المطلق له بفخر وبشكل متكرر هو خامنئي. وفي المقابل، غالباً ما وصف المرشد الأعلى شخصية سليماني وخدمته بصفات لم تُستخدم لوصف أي قائد آخر.وتجسَّدت هذه المحسوبية المتبادلة أيضاً في الطريقة التي توليا بها إدارة السياسة الإقليمية. ففي أوائل 2019، على سبيل المثال، رافق أفراد من «فيلق القدس» الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق إلى مكتب خامنئي في طهران دون علم مسبق من الحكومة. وردَّ وزير الخارجية محمد جواد ظريف بغضب على استبعاده من الاجتماع وعرض استقالته، لكن تم رفضها. وحتى إن الرئيس حسن روحاني نفسه استُبعد من أجزاء من الاجتماع- في المقابل، جلس سليماني ورفاقه إلى جانب خامنئي طيلة فترة المحادثات، حيث أشاد به المرشد الأعلى والرئيس السوري، وأغدقا عليه المدح.
ملاحم وأساطير
بالإضافة إلى ذلك، وبفضل الحملة الدعائية التي تشنها الدولة والتغطية الإعلامية الغربية، اعتبرت شريحة كبيرة من المجتمع الإيراني سليماني بطلاً، رغم أنه كان يقول صراحة إنه ليس شخصية قومية، بل جندي في خدمة الإسلام والنظام. ويُعد لقب «البطل القومي» الذي غالباً ما وُصف به لقباً نادراً في اللغة الفارسية، لا يُعطى إلا لشخصيات في الملاحم وعلم الأساطير الفارسي، وليس لمسؤولين عسكريين معاصرين. ومن هذا المنطلق، أصبح سليماني مقدساً من الناحية الأيديولوجية بقدر خامنئي نفسه تقريباً، ولم يكن مسموحاً انتقاد سجله أو دوره علنياً، كما مالت نخبة النظام إلى التحدث عنه باحترام، وحتى بمحبة، بغض النظر عن تبعياتها الفصائلية. فبنظرهم، كان يتمتع بالمقومات الضرورية لتسهيل عملية صُنع القرار والتوصل إلى تفاهم وإجماع في وقت الأزمات- وهو شخصية لا مثيل لها يتمتع بسُلطة وحكمة، وكان مقبولا من أقرانه العسكريين، والنخبة السياسية وجزء كبير من الشعب.وتم تعزيز هذه السمعة في السنوات الأخيرة كلما تم تكليف «فيلق القدس» بالاضطلاع بدور أكبر على الساحة المحلية. على سبيل المثال، بعد عجز الحكومة عن التعامل بفاعلية مع أزمة الفيضانات التي أصابت البلاد العام الماضي، تدخلت قوات سليماني لتوفير الإغاثة. ونظراً إلى وصفه هذه القوة بأنها هيئة وطنية مكلفة العديد من المهام العسكرية وغير العسكرية، سيكون من المثير للاهتمام رؤية ما إذا كانت القيادة الجديدة تشعر مضطرة إلى إعادة توضيع التنظيم.ويُعتبر محمد حسين- زاده حجازي، النائب الجديد لقائد «فيلق القدس»، شخصية تُجسد هذه المعضلة. فقبل انضمامه إلى «فيلق القدس»، كان له دور مهم في تحويل ميليشيا «الباسيج» إلى قوة قمعية أقدمت بوحشية على قمع احتجاجات «الحركة الخضراء» في عام 2009. ورغم توليه أدواراً خارجية منذ ذلك الحين، فإن خلفيته الإجمالية تتركز بشكل كبير على الأمن الداخلي. يُذكر أن «فيلق القدس» بقي عموماً خارج مساعي النظام الرامية إلى قمع الاضطرابات التي شهدتها إيران في الآونة الأخيرة، مثل مقتل المئات لاحتجاجهم على رفع أسعار البنزين. ونتيجة لذلك، تلقى «الفيلق» بعض اللوم بسبب هذا القمع، لكن ذلك قد يتغير.إن آيات الله الثماني والثمانين الذين يشكلون «مجلس الخبراء» الإيراني مكلفون بموجب الدستور تعيين خلف للمرشد الأعلى، لكن هذه المؤسسة تُعرف باعتمادها على جهات فاعلة من الخارج، لا سيما «الحرس الثوري» الإيراني. فعادة ما يفوز الأعضاء في انتخابات المجلس بدعم مباشر وتمويل من عناصر «الحرس الثوري»، كما أن علاقاتهم بالأجهزة العسكرية- الأمنية أقوى بكثير من جذورهم في المؤسسة الدينية. وبالتالي، لابد من اتخاذ القرار الفعلي بشأن خلف خامنئي المحتمل خارج المجلس.إن موت سليماني يجعل هذا الوضع أكثر تعقيداً، إذ لطالما استبدل خامنئي الولاء لأيديولوجيا النظام بتقديس لشخصه على مرِّ السنين، وإذا كان سيغادر الساحة السياسية قريباً، فلن يكون للنخبة المقسَّمة إلى عدة فصائل- بما فيها «الحرس الثوري» الإيراني- سُلطة محورية ترسي عليها أساساً جديداً للوحدة الداخلية والشرعية المحلية، مما سيطرح خطراً وجودياً على النظام ككل.والمفارقة أن خامنئي هو «رجل المؤسسات» الذي يؤمن بالبيروقراطية الحديثة غير المحدودة من أجل إضعاف دور الجهات الفاعلة من الأفراد. ومع ذلك، فإن تركيزه على دعم مجموعة من المؤسسات لا يهدف إلى تمكين هيكليات الحكومة الديمقراطية، بل إضعاف إمكانية إقامة تحالفات مستقلة ومؤسسات ديمقراطية قوية. واليوم، من الشائع أن يتم تكليف مؤسسات إيرانية بمهام متداخلة، مع عدم وجود خيارات للتنسيق مع بعضها، أو اعتبار نفسها مسؤولة أمام أي سُلطة غير المرشد الأعلى. ويساعد هذا التصميم خامنئي على عزل سُلطته عن أي تهديدات محلية، سواء من النخبة أو من الشعب، مما يسمح له بالتمتع بصلاحية قصوى، ولكن مع الحد الأدنى من المسؤولية عندما تسوء الأمور.وأخيراً، إن خطر تركيز الكثير من السُّلطة بيد خامنئي أمر واضح: ما الذي سيحصل عند رحيله؟ لقد كان سليماني يمثّل سُلطة بديلة لا تضاهى، كان شخصاً قد منح خامنئي على الأرجح راحة البال بأن النظام قد يحافظ على استقراره متى حان موعد المرحلة الانتقالية. حتى الأنظمة الاستبدادية تستفيد من وجود مثل صمامات الأمان هذه- وهي شخصيات يمكنها تقديم التوجيه خلال أوقات الأزمات، وتتوقع الالتزام به دون اللجوء إلى التدابير القسرية. والآن يبدو أن آفاق الخلافة مقلقة على نحو أكبر بالنسبة لطهران، كما أن مستقبل النظام أقل تأكداً.* مهدي خلجي