إبراهيم الحسين في مجموعته «يسقط الآباء حجراً حجراً»... الكلمات نشيج مضمر ورافعةٌ لتخفيف الألم
يفتتح إبراهيم الحسين مجموعته الشعرية "يسقط الآباء حجراً حجرا" بنص يبدأه بـ "قُضي الأمر"، معلناً منذ البداية خبر وفاة أبيه (مع تأريخ النص)، دون تمهيد أو تدرّج للوصول إلى ذروة الحدث في المجموعة، وكأنه بهذا الإعلان المفاجئ وفي الكلمة الأولى منه يقول لنا إن الموت ــــ هو في حقيقته ــــ صدمة.
في الكتابة، مثلما في تقنية السرد بالحكاية الشفهية، الخبر الأهم يتقدّم المهم، ثم يأتي الشرح والتفصيل، قد يكون هذا "تكنيكاً" لشد انتباه السامع/ القارئ، وتحضير مخيلته وتحفيزها للآتي من أحداث، وهو ما اتبعه الشاعر في الصفحة الأولى من مجموعته، وأحالنا دون تقصّد منه إلى كلمات ألبير كامو في روايته "الغريب" عندما قال في السطر الأول أيضا من روايته "اليوم ماتت أمي" ثم راح يكمل فصول الحكاية.
رثاء النخلة بتأبيد صورتها القديمة
المجموعة صدرت للشاعر السعودي إبراهيم الحسين مؤخرا عن "منشورات تكوين" وضمّت نصوصاً، أو نصاً طويلاً بمقاطع مرقّمة بلا عناوين (69 نصا)، مع ترك المفتتح/ النص صفر كإعلان خبر يبدأ بعده سرد الحكاية. من الصعب تصنيف المجموعة في خانة الرثاء، ومن الأصعب استبعادها عن هذه الخانة، فالشاعر يستدعي كل صور الفقد وينوّع عليها بطريقته الخاصة التي تجنبه السقوط المباشر في بئر التفجّع، أو حرقة الرثاء المعروفة والتي قد تثقل النص وتخرجه عن الشعرية، فالحسرة تتجنب الفقد وتسبق لحظته إلى النظرة إلى الأب في فراشه وهو يتساقط ملمحاً ملمحاً أمامه "كان يتمدد في الفناء/ مثل شجرة مقطوعة/ وكانت نظراته متناثرة حوله/ لم يكن فيها أنه يأبه بالهواء الثقيل/ ولم يكن فيها أن لحاءه الذي انزاح عن عظامه/ شيء يعنيه". الأب الذي يريده الشاعر نخلة في ساحة البيت، تقف وتستقيم وتظلّل، يشعر بوجودها ودوام خضرتها حتى وإن ألهته مشاغل حياته اليومية عن الالتفات الدائم إليها، وكما التأنيب يقول "هل إننا لم نستخدم آذاننا جيدا/ وإلا كيف لم نسمع الزعزعة/.../ كيف مررنا على انحناءة النظرة مرور اللئام/ وتغافلنا". هي قراءة في أحوال انطفاء الأب بالشيخوخة، وقيمة من نحب حينما تتسرب من بين أصابعنا دون أن نحس بها إلا بعد برهة، فنوقن بعدها بحجم الخسارات وفداحة التأجيل.
الابن الهادئ في حضرة أبيه
يقول الشاعر عن الآباء الذين كبروا وشاخوا فتساقطوا في فراغات الشيخوخة والانطفاء: "على الآباء أن يعاودوا المشي في الدموع التي جاءوا منها وأن يتفقّدوها/ وعليهم أن يتذكّروا التحيّات التي طوّحوها جُزافا/... فما خسروه قد خسروه/ وعليهم أن يعترفوا وأن يبحثوا جيدا/ أن يعودوا آباءً مثلما كانوا). لا يمكن أن يخدعنا الشاعر بهذه القسوة الظاهرة، والمطالبات الموجّهة للأب؛ المطالبات المتكررة اللحوحة، فما هي إلا صرخة مَن لا يريد أن تتزحزح صورة الأب في عينيه، ولا أن يحرّكها الزمن بعصفه وغباره، يريد ثباتها الأبدي مثل نداءات طفل يطلب اللامعقول، وهو هنا- تأدّبا وشفقة على الأب- كلما غصّ بالعتب أو المطالبة لجأ إلى التعميم، فالتفت إلى الآباء، كل الآباء، بدلاً من توجيه خطابه إلى أبيه، وعنوان المجموعة نفسه لا ينجو من هذا السياق، ومن هذه الحيلة والضمائر المخاتلة. التعميم إذاً كان حيلة الشاعر أو (بالأصح) خياره التأدبي في الخطاب غير المباشر إلى الأب وعنه، لكنه في أغلب نصوص المجموعة حينما تحمَّل بمشاعر الابن الحميمة تجاه أبيه يطغى ضمير المخاطَب، وهو الضمير الأقرب للبوح ودفء المخاطبة: "ما يجعل نظرتي تسقط مثل حجر/ كلما صعدتُ إلى وجهك/ هو عينك التي ترعى في المكان".الشهقة باباً والكلمات رافعة
ما من رثاء - في أغلب حالاته- يخلو من العودة للماضي والحنين واستحضار الذكريات والصور المشتركة وتقليب ألبوماتها، لكن الحسين يرسم مشاهد "حاضر" الفقيد (من مايو حتى أكتوبر 2018) على الزجاج المغبّش في ممرات المشفى، والأسرّة وغرف الانتظار، يوقف اللحظات ويجمّدها: التقصّف والانهيارات والتساقط، ومشاهد: المرض وصُفرته، التجاعيد، الكلمات الغائبة في فم الأب والغمغمات، ذهول العينين الغائرتين... كلها تصف حاضر الأب في أيامه الأخيرة، وكأن الحسين فيها كان بخيلاً في استرجاع صور الماضي وحياة ما قبل المشفى. "كانت أصابعك تنطوي على سياج السرير/ وكان وجهك مفتوحا على راياته البيضاء/ مفتوحا على أثاثه الذي لم يعد صالحا/ على غياب دهشته وعلى ملامح لا تدري من أين جاءت وسكنته". يلجأ الحسين للكلمات بديلا للنشيج الخفي المضمر، وللشهقة بابا يخرج منه هروبا من مواجهة المشهد المؤلم، وكلا الكلمات والنشيج يستخدمهما كرافعة للمواساة والتخفيف من الألم "كنت أشهق شهقتي الواسعة والعالية/ أظنها باباً/ أقدر أن أخرج منه/ وأكسر الضوء/ أُعمي لمعته الخافتة والمبتذلة/ فوق رخام نداء انتهاء الزيارة الفاحش".العين التصويرية تلتقط التفاصيل
تفكيك الغموض سواء كان في الرواية أو الشعر أو اللوحة (أو الفنون بأنواعها) يمنح لذة الاكتشاف، وهو غالبا ما يكون في المعنى أو اللغة أو تركيب الصور، لكن الحسين غموضه ولذة تفكيكه في مكان آخر، هو في المشاعر الجوّانية الدقيقة جدا، التي يجوس بمنظاره التلسكوبي على مناطقها الخفيّة، ويطيل النظر إليها، ويتأمّلها دون ملل. مناطقه "المكبَّرة" في اللامتوقع وغير المفكَّر بها من قبل، فهو يمضي في مساربها وشرايينها، فلا هي تنتهي ولا هو يتوقف، ففي وقوفه على القبر ساعة الدفن يترك نظرته أنيساً للميت ويقول "رأيت لبناتٍ مائلة/ ورأيت طينا يلحمها/ ويصل بينها/.../ رأيت ترابا متعجلاً يخرّ وحده من الحافة/ ورأيت نظرتي الأخيرة التي تداركت وألقيتها/ تختفي شيئا فشيئا تحته/ ورأيتني أتركها وأنصرف/ لأني/ رأيت أن لابد من فعل شيء لكسر وحدتك...". في كل كتابات الحسين ـــــ ومنها هذه المجموعة ــــ يتأكد لنا أنه شاعر تلسكوبي غير متعجل، وحيد في عزلته الغريبة تلك، وفي طريقته المتميزة في قراءة الأشياء من حوله، بإدامة النظر والتأمل فيها، حتى يكاد يخترقها أو يتوحّد بها، ويستحيل كما الساهم في الخطوة وأثرها، والوردة وساقها، والقطرة وصداها، والباب وخشبه، والمرايا ووجهه، ويستمر هكذا يفتش في الزوايا والتفاصيل المجردة، يولّد منها المعنى أو يكشفه بالأحرى. كل اللقطات الصغيرة التي تقع عينه عليها يُجري لها نسخا (scan) يخزنه في اللاوعي ويظهّره لحظة الكتابة من مجاهله البعيدة، كاستدعاء حر تلقائي "فوق نقّالة المرضى/ كنت تعيد كتابة حكايتك بصياغة أخرى/ ..../ الغطاء الذي لم يتدارك قدمك/ وتركَها مكشوفة لي وحدي/ خطها لي مثل هامش طويل".
الشاعر يستدعي صور الفقد وينوع عليها بطريقته الخاصة التي تجنبه السقوط المباشر في بئر التفجع
في كل كتابات الحسين ومنها هذه المجموعة يتأكد لنا أنه شاعر تلسكوبي غير متعجل
في كل كتابات الحسين ومنها هذه المجموعة يتأكد لنا أنه شاعر تلسكوبي غير متعجل