طغت إجراءات "بريكست" على السياسة البريطانية منذ ذلك اليوم المصيري في يونيو 2016، حين فاجأ الرأي العام البريطاني العالم وصوّت على قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. حَكَم رئيسا وزراء بريطانيان البلد في آخر ثلاث سنوات وسبعة أشهر، وهما تيريزا ماي وبوريس جونسون، فحاولا تحديد طريقة تنفيذ خطة "بريكست" بأقل أضرار ممكنة على القوة الاقتصادية والدبلوماسية البريطانية.لكن انتهى فصل "بريكست" الآن وحلّ مكانه موضوع مهم آخر: هل ستحصل شركة الاتصالات الصينية "هواوي" على رخصة لإنشاء البنية التحتية للاتصالات بشبكة الجيل الخامس في بريطانيا؟ بعد جدل واسع وانقسام واضح في الحكومة، قرر رئيس الوزراء جونسون السماح لشركة "هواوي" باختراق النظام البريطاني، إذ تُعتبر الشركة الصينية برأيه أفضل خيار من حيث الأداء والكلفة لتوفير أسرع الاتصالات عبر الإنترنت.
مسألة "هواوي" ليست مجرّد مصدر خلاف آخر في الحياة السياسية البريطانية الشائكة، بل إنها تعكس معركة جيوسياسية محتدمة اليوم بين الولايات المتحدة والصين، إذ تحاول كل واحدة من هاتين القوتين العالميتين التفوق على الأخرى.نميل عموماً إلى التركيز على بحر الصين الجنوبي باعتباره ساحة المنافسة الأساسية في هذه الخصومة، لكن لا يقتصر هذا الصراع الأميركي الصيني فعلياً على العصرنة العسكرية والسيطرة على الأراضي، وهما المؤشران التقليديان على القوة والنفوذ والامتيازات في السياسة الدولية، بل تحتدم المعركة في مجالات متعددة أخرى، بدءاً من تطوير البنى التحتية والتجارة، وصولاً إلى التكنولوجيا والأمن السيبراني والملكية الفكرية والتصنيع. من المتوقع أن يصبح الخلاف بسبب "هواوي" والضغوط التي تفرضها واشنطن والصين على بلدان مثل بريطانيا وألمانيا عاملاً محورياً في لعبة القوى العظمى طوال هذا القرن.تتعامل الولايات المتحدة والصين مع "هواوي" وكأنها مسألة وجودية، وجّهت إدارة ترامب إنذاراً إلى حلفائها البريطانيين والألمان، معتبرةً السماح لشركة مرتبطة بالحزب الشيوعي الصيني بالوصول إلى شبكاتهم عملاً غير مسؤول. هذه المخاوف منطقية: حين تخترق "هواوي" تلك الشبكات، تستطيع بكين أن تحصل على معلومات استخبارية هائلة عن أي مواطن بريطاني وألماني يستعمل خدماتها العاملة بنظام الجيل الخامس. ألمح نائب مستشار الأمن القومي مات بوتينغر خلال رحلة إلى الهند حديثاً إلى استياء واشنطن لمجرّد أنّ لندن تفكر باتخاذ قرار مماثل. هذه الخطوة غير منطقية بنظر الكثيرين في البيت الأبيض، فقد اتخذ وزير الخارجية مايك بومبيو، ووزير الخزانة ستيف منوشين، والسفير الأميركي وودي جونسون، مواقف قوية في الأسبوع الماضي، فحذروا زملاءهم البريطانيين من تهديد السيادة البريطانية من أجل معدات صينية رخيصة، حتى أن الإدارة الأميركية مُصرّة على منع الصينيين من اختراق السوق البريطاني لدرجة أنها هددت بإلغاء المحادثات حول اتفاقية تجارية جديدة (خفّت وطأة التهديد بعد اتصال هاتفي بين ترامب وجونسون).لكنّ الولايات المتحدة ليست الجهة الوحيدة التي تفرض الضغوط، فقد أوضحت الصين للألمان تحديداً أن منع "هواوي" من بناء شبكات اتصالاتهم سيستلزم رداً صينياً صارماً، عبر فرض رسوم جمركية على السيارات الألمانية مثلاً أو وضع حدّ لحصة برلين في السوق، وبما أن الصين تُعتبر من أكبر أسواق التصدير للسيارات الألمانية، يجب أن تأخذ أنجيلا ميركل هذا التهديد على محمل الجد حين تُقيّم هذه المسألة. أعلن سفير بكين في ألمانيا، وو كين، في الشهر الماضي: "إذا اتخذت ألمانيا قراراً بإقصاء "هواوي" من السوق الألماني، فستواجه العواقب حتماً".أصبحت لندن وبرلين عالقتَين في مستنقع من التحذيرات الشائكة، وكأنهما خِراف محاطة بذئبَين موجودَين في واشنطن وبكينن هما تواجهان موقفاً لا تُحسَدان عليه، حيث تضطران للانحياز إلى أحد الطرفين في منافسة يعتبرها بعض الخبراء نسخة جديدة من الحرب الباردة. وحتى لو توصّل بوريس جونسون وأنجيلا ميركل إلى موقف متوازن في هذا التحدي، ثمة أمر مؤكد واحد: مع مرور الوقت، لن تستطيع أوروبا، وكوريا الجنوبية، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، والعراق، ومساحات من إفريقيا، التهرب من هذا التنافس الجيوسياسي لوقتٍ طويل.* دانيال ديبيتريس *«ناشيونال إنترست»
مقالات
الصين تفوز بمعركة «هواوي» في بريطانيا
04-02-2020