• حدثنا عن الأجواء التي نشأت فيها، وكيف دفعتك إلى عالم الكتابة لاحقاً؟

Ad

- لست بحظ الكتاب الذين أتاحت لهم البيئة فرصة ترجمة حيواتهم سيراً ذاتية، فمنهم من اشتهر بها لعجائبيتها كمحمد شكري صاحب "الخبز الحافي"، ومنهم من اغتنى بها لفظاعتها كـ"جان جينيه" صاحب "يوميات لص"، وكلاهما انتهى به الأمر إلى قطيعة كبرى مع القارئ حين علموا بأنه يفضل الجانب العاري والمشوه من شخصية الكاتب. لكني حين أطللت على تاريخ الكتابة، علمت أن مثل هؤلاء الكتاب عاشوا فصلاً واحداً في حياتهم الأدبية، هو فصل الاشتهار السريع، وشكرت الله أنني نشأت وترعرعت على مهل، في أربعة فصول، خريف وفقر، وصيف وحر، وشتاء وقر، وربيع ويسر، تماماً كما أراد لي الله، ابن البادية الفلاح والراعي، العليم بها وبكل ضروبها، ولحظه الجميل، كان أبوه حكاءً بارعاً، ويعرف أخبار الأولين.

ونشأت أتعاطى مع الحياة كما تأتي إليّ، أجوب الأسواق الأسبوعية وأستمتع بقصص الحكائين و"الحلايقية" (أشخاص مهنتهم إضحاك الناس وإخراجهم من روتين الحياة)، وأتسكع في الغابات كمجنون، وأعاشر كل أنواع البشر، وأستمع لكل أشكال الموسيقى، بل تجدني أول من يسارع إلى حل عقد الحجايات التي تسردها أمي ليلاً، وأول من يردد لازمات الاحتفال بأعياد المولد النبوي وأعياد الفطر، وأول من يقف مشدوهاً أمام أبي وهو يحكي لنا عن معارك زمن السيبة، وعن شخصيات بلغت حد الأسطورة وأستمع إلى أمي وهي تردد حكاية جدي حين كان طفلاً، وأفلت من شراك الضبع الذي افترس امرأة أمام عينيه، وأستمع إلى خالتي زهرة وهي تغني بلحنها الباكي قصص الماضين، بل وأتذكر أمي وهي تنوح أخاها الأصغر عن طريق ترديد أراجيز قديمة كالتي للبطولات.

وأما حكايات "هاينة" و"أمي الغولة" و"حموصة" و"سيف بن ذي اليزن" وغيرها، فهي لم تكن لتفارق بيتنا يوماً.

• بدأت شاعراً ثم تحولت إلى الرواية، فهل أردت الاستفادة من حالة الزخم التي تحظى بها الرواية حالياً؟

- أريد أن أعرف فقط، هل هناك شخص يصدق أني أكتب الرواية كأني أكتب مجموعة من القصائد؟ إني أوظف كل آليات كتابة القصيدة في العمل الروائي: الاهتمام المبدئي باللغة القوية والمرهفة، والإيقاع، والمحسنات وغيرها.

أنا أمارس الشعر رواية، أو أمارس الشعر في الرواية، ما دمت أرى أن القارئ اختار ألا يقرأني إلا إن رآني في السرد الحكائي الطويل، وبذلك أترجم له الصور والمعاني نفسها التي كنت سأنظمها شعراً بطريقة نثرية. وقد سبق أن قلت، لماذا لا نكتب ما سميته الرواية الشعرية؟!

ثم إني من القائلين بحذف الحدود بين الأشكال الأدبية، فالصورة نفسها التي نعبر عنها نثراً قد نعبر عنها شعراً أو حتى رسماً أو كلها معاً، ولنا في الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير مثال واضح، بحيث كان يكتب قصائده على شكل رسوم. ولذلك، فأنا لم أنتقل إلى الرواية إلا من أجل الشعر.

• ما "قصيدة الطلقة" التي ابتدعتها، وما سماتها؟

- "الطلقة" هي القصيدة الرصاصة، هي القصيدة النكتة. تشبه الومضة في الشكل واللافتة في الطريقة، وتجمع بين الإيجاز والتكثيف وإصابة المعنى وقوة التعبير ووضوح الصورة.

لا أعتبرها رمزاً للقصيدة المثالية، لكني أراها تستجيب لرغبات القارئ الحالي الذي هجر القصيدة من أجل الرواية، باعتبارها تميل نحو الحكمة والسخرية، والحركية المتمثلة غالبا في الحوار.

• ما القضايا الرئيسة التي أردت مناقشها في روايتك الأخيرة "الخادمة"؟

- لم نتخلص من نظرتنا إلى المرأة كخادمة، حتى إن كان اسمها "نبيلة"، وكانت حقاً نبيلة مخلصة ومتفانية في تعاملها مع المكتوب، أي في حراستها لمكتبة "الأم مارية"، التي تمثل "مريم" الأم الثانية للرجل بعد حواء.

ولم تتخلص "نبيلة" المرأة من التفاتها إلى الماضي وبكائها عليه في كل مرة تذكرت فجيعتها بموت ابنها الرضيع، حين كان عليها أن تفكر في التشبه بالرجل لكي تتخلص من نظرة العطف، تماماً كما فعلت جورج صاند (الاسم المستعار للروائية الفرنسية أمانتين أورو لوسيل دوبين).

ولم تتخلص الطباخة عائشة من إيمانها بالعرَّاف الذي دوره فقط أن يبعث الطمأنينة في نفسها بدل الثورة على واقعها، وفي كل مجتمع عراف يقدسه الناس كتمثال.

ولم يتخلص "السائق أحمد" من دوره الشامل، كسائق ومستشار وصديق حميم للأم مارية، كما أنه العنصر الوحيد الذي يربط بين الخادمات وسيدة البيت، والعين الوحيدة لهن على العالم الخارجي، فلا يأكلون إلا ما يتسوقه لهن. "الخادمة"، ليست رواية قضية، بل هي رواية أدوار.

• برأيك، إلى أي مدى أثرت الثقافة الأوروبية على الكتاب المغاربة؟

- ثلاثة أدوار رئيسة يمكننا الحديث عنها في هذا المضمار، أولاً الدور الذي لعبته الثقافة الموريسكية في المغرب، وذلك بأنها تتميز بالتنوع الكبير، وتتشرب من الثقافة العربية والإسبانية، والإسلامية والمسيحية واليهودية، ولا يمكن أن نتناسى أن قناة فاس قرطبة أو فاس غرناطة أو غيرهما من عواصم الأندلس كانت مفتوحة باستمرار.

ثانياً الدور الذي لعبه الاستعمار الفرنسي، والذي مهَّد لنا أن نسمع بأن ألبير كامو ابن الجزائر، وهو من كبار رواد العبثية، وبأن رولان بارت عاش ودرس في المغرب، وهو من كبار رواد البنيوية، وبأن بول باسكون مغربي، وهو من كبار علماء الاجتماع، ما مهد الدور لجيل من الباحثين المغاربة مثل عبدالكبير الخطيبي والمهدي المنجرة وأجيال سابقة ولاحقة.

ثالثاً، الدور الذي لعبه التلاقح العربي الإسباني من خلال الحوار المتوسطي، والذي دفع خوان غويتيسولو إلى إعلان قائمة الألفاظ العربية في اللغة الإسبانية.

كل هذه الأمور، أججت التفاعل الثقافي بين شمال المتوسط وجنوبه، ومن ذلك المغرب.

• ماذا تكتب حالياً؟

- ثمة مشروعات أدبية متعددة، من بينها روايات، ستخرج للوجود أولاها هذه الأيام، وهي تحت عنوان "الكوابيس"، ومن بينها دراسات أدبية وأخرى تتعلق بالأدب الشعبي، وكذلك ديوان شعر حاولت أن ألخص فيه تجربتي الشعرية المتنوعة، من القصيدة العمودية إلى الحرة، ثم إلى الطلقة.