تختلف وجهات نظر خبراء السياسة بالنسبة للثنائية القطبية، فبينما يعتقد كثير منهم، وربما أبرزهم كينيث والتز، العالم الأميركي في مجال العلاقات الدولية، وأحد قدامى المحاربين، أن أي منطقة تكون أكثر أماناً في ظل وجود قطبين بها، يعتقد آخرون أن الاتجاه نحو الثنائية القطبية كان يسبق اندلاع كل حرب كبيرة منذ "صلح ويستفاليا"، وهو الاسم الذي يطلق على معاهدتي سلام أنهيتا حربين دامتا 30 عاما و80 عاما في القرن السابع عشر.

ويؤيد مارك غرين، عضو مجلس النواب الأميركي، وخريج الأكاديمية الحربية، الرأي الثاني في تقرير نشرته مجلة "ذا ناشونال انتريست" الأميركية، حيث يؤكد أن الشرق الأوسط يتجه نحو وجود ثنائية قطبية، وهو يثير القلق.

Ad

ويرى غرين أنه "منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تمارس إيران نشاطها من خلال جماعات إرهابية تعمل بالوكالة عنها، مثل حزب الله، لتصدير أيديولوجيتها الثورية، وتوسيع نطاق نفوذها خارج حدودها، وأنه على مدار الأربعين عاما الماضية، كانت النتيجة درجة من المواءمة مع هؤلاء الوكلاء، وقد أصبح هناك شرق أوسط قريب من الثنائية القطبية".

وذكر تقرير نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن إيران "ضاعفت ثلاث مرات توازن القوة الفعالة في الشرق الأوسط لصالحها"، وكانت النتيجة "قطبية أحادية" في المنطقة من اليمن، عبر إيران والعراق، وسورية، ولبنان. وفي الوقت نفسه، تشكل مواءمة أخرى تضم مصر والسعودية وغيرهما من الدول، قطبية أحادية مقابلة. وبذلك يصبح الشرق الأوسط من الناحية الهيكلية في سبيله إلى أن يكون ثنائي القطبية، ومن ثم مستعدا لاندلاع حرب كبرى.

ويضيف غرين أن هذا يعني أنه في ظل قطبية ثنائية ناشئة مثل الوضع الذي نحن بصدده في الشرق الأوسط، يتعين علينا بحث الإجراءات التي يتعين على القادة اتخاذها، أولا لمنع النتيجة المحتملة الأكثر سوءاً، وثانيا لكسب الحرب الباردة التي غالبا ما تشهد سباق تسلح وتحالفات، وقد شهدت في الماضي مقتل الملايين في حروب بكوريا، وفيتنام، وإفريقيا ومناطق أخرى.

وفي نهاية المطاف، بدأت محاولة لإحداث انفراج بزيارة ريتشارد نيكسون لموسكو. ورغم ذلك، فإن الانفراج لم يفعل الكثير لكبح العدوان السوفياتي، وانتهى أخيرا برد الرئيس الراحل رونالد ريغان على الغزو السوفياتي لأفغانستان. وما صار يعرف باسم "مبدأ ريغان" كان استراتيجية احتواء، ومواجهة أسفرت عن صراع اقتصادي لم يكن بوسع النظام الشيوعي التنافس فيه.

ويشير غرين إلى أن الرئيس ريغان واجه السوفيات بنصب صواريخ "بيرشنغ 2" في أوروبا، كما قام ببناء نظام دفاع صاروخي يتخذ من الفضاء قاعدة له، وبدأ غزو دولة غرينادا في الكاريبي لوقف سيطرة الشيوعيين الكوبيين عليها، وقام بدعم المتمردين المعارضين للشيوعيين في أنحاء العالم، كما نال موافقة الكونغرس على تقديم مساعدات عسكرية تبلغ قيمتها 2 مليار دولار للمجاهدين الذين كانوا يحاربون السوفيات في أفغانستان.

والذي دفع السوفيات إلى الجلوس على مائدة المفاوضات إدراكهم أن اقتصادهم لا يمكنه خوض المنافسة مع عملية الاحتواء من خلال العقوبات، وكذلك المواجهة من خلال الإمكانات العسكرية الأميركية المتقدمة الموجودة في الخطوط الأمامية. وفي أقل من عام عقب توليه الرئاسة في عام 1981، سقط حائط برلين، وفي أقل من ثلاثة أعوام تفكك الاتحاد السوفياتي. وقد تحقق النجاح لجهد ريغان الحاسم وإظهاره للعزم الحازم.

وقال غرين إن المواجهة والاحتواء اللذين نجحا في منع أسوأ سيناريو وإنهاء الحرب الباردة بانتصار للغرب، سينجحان أيضا مع إيران، ويبدو أن هذا هو مبدأ الرئيس الحالي دونالد ترامب الحالي، إذ ابتداء من حظر السفر، ومرورا بالعقوبات القاسية الجديدة والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، إلى تعزيز الانفاق العسكري الأميركي والضغط على حلف شمال الأطلسي (ناتو) ليزيد نفقاته العسكرية، أظهر ترامب، مثله في ذلك مثل ريغان، استعدادا لاستغلال جميع الوسائل، باستثناء المواجهة العسكرية، لفرض تكاليف لا يمكن لعدوه أن يتحملها.

ومثل ريغان، لدى ترامب استعداد لزيادة القوة الأميركية وهو يعلم أنه ليس بوسع إيران مجاراته. وقراره الخاص باغتيال اللواء الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، أدى إلى التخلص من الرأس المدبر للقوات التي خلقت الثنائية القطبية، وأظهر أن الولايات المتحدة لن تسكت على أي اعتداء صريح على القوات الأميركية.

وكما فعل ريغان، مارس ترامب أيضا ضبط النفس، ولم يقم بالرد على الهجمات التي استهدفت المنشآت النفطية السعودية في سبتمبر الماضي، كما سمح بردود فعل متناسبة ومحدودة، مماثلة لضبط النفس من جانب ريغان عندما استهدفت إيران سفينة حربية أميركية عام 1988. ورغم مظاهر المواجهة، سعى ترامب إلى الحد من خطر التصعيد.

وأكد غرين أن استراتيجية الاحتواء والمواجهة التي يتبعها ترامب هي الاستراتيجية الصحيحة، وهي الاستراتيجية التي اتبعها ريغان قبله لتحقيق نصر استراتيجي، تمثل في انهيار الاتحاد السوفياتي، وهي الاستراتيجية المطلوبة اليوم في الشرق الأوسط في ظل الثنائية القطبية التي تشهدها المنطقة.