أوروبا مستمرة
بصفتي شخصاً لا يخجل من حبه لإنكلترا، سأستمر في الحلم بأوروبا التي يمكنها أن تُظهر إحساسها تجاه أحد أفراد العائلة، الذي نكن له المحبة، والذي غادرنا.
إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كارثة بالنسبة إلى المملكة المتحدة، فنظرا إلى مخاطرتها، الآن، بخسارة اسكتلندا وإيرلندا الشمالية بسبب الانفصال، يبدو أن البلاد قبلت فكرة تحول بريطانيا العظمى إلى "إنكلترا الصغيرة". إن بريطانيا هي ذاك الأسد النادر الذي اختار أن يصبح صغيرًا صِغَر الفأر.وما لا شك فيه أن إنقاذ المملكة الإنكليزية هو كل ما يهم مؤيدي البريكسيت على الإطلاق، ولكن أي مملكة ينتمي إليها رئيس وزراء يكذب على الملكة، كما فعل بوريس جونسون عندما أوقف البرلمان العام الماضي؟ ومع كل هذا، عظم مؤيدو البريكسيت الإمبراطورية البريطانية، وونستون تشرشل، إلا أنهم نسوا كارل ماركس، الذي كان في الماضي متجولا في شوارع لندن، والذي حذر من أن التاريخ يعيد نفسه في النهاية وكأنه مهزلة. ومع وجود جونسون في السلطة، يحكم المملكة المتحدة تشرشل صامت، فهو أمير السخرية، وليس من دعاة الشجاعة، إنه نسخة وضيعة من تشرتشل، ويكيف آراءه مع كل ما هو مناسب سياسياً.إن مؤيدي البريكسيت يركزون الآن على "السيادة"، التي من المفترض أنهم استعادوها، إلا أنه معروف أنهم مدينون بنجاحهم في استفتاء عام 2016، للتدخل الروسي، وخوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي الأميركية، لقد كانت حملة "المغادرة" عبارة عن كم هائل من السخرية، والأخبار المزيفة، التي قادها المحتالون الذين كانوا سعداء للغاية بوصفهم، خطأً، بأقوى الديمقراطيين في البلاد. لقد كانت لحظة بدء رواية سيئة أكثر من كونها لحظة حقيقة.
ومن المؤكد أن تشرشل قد أخبر شارل ديغول (متجول آخر في شوارع لندن الضبابية)، أن إنكلترا تفضل دائمًا البحر المفتوح نحو أوروبا، ولكن لو كان ديغول موجودا اليوم، لأشار إلى أن بريطانيا بقيادة جونسون، ليس لديها أوروبا، ولا بحر مفتوح؛ بل، تخوض حروبًا تجارية، وتعقد صداقة مزيفة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولديها آفاق اقتصادية متواضعة، في عالم تهيمن عليه قوى مثل الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي نفسه.ومع ذلك، يتضح، للأسف، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو هزيمة لفكرة أوروبا، ذاك الوهم الميتافيزيقي، والمعطف المتعدد الألوان لهارليكين الجيوسياسي، ووفقا لماركس، تعتبر أوروبا مزيجًا فريدًا من الفكر الألماني (وشياطينه)، والسياسة الفرنسية (وما ينجم عنها)، والتجارة الإنكليزية (وتجاوزاتها).وداخل الاتحاد الأوروبي، كانت المملكة المتحدة هي النسخة الحديثة من جون ستيوارت ميل، وديفيد هيوم، وهما يقفان ضد الجدلية الفرنسية، ونسخة من بنجامين ديسيلي وهو يتحقق من الدوافع القارية نحو شوفينية فاغنر، وبقدر ما تمثل المملكة المتحدة البحر، فإنها قد تجرف باريس، وروما، وفيينا بعيدا. وجلبت بريطانيا مفارقة ج.ك تشيسترتون إلى المفاوضات الدولية، وقدمت لمسة من العالمية البيرونية، لزرع مشاعر الرحمة تجاه اليونان خلال أزمتها، والتضامن من أجل التعساء على الأرض بشكل عام.وهناك سبب جعل بريطانيا ملجأً آمنًا لأمثال شاتوبريان، وسيغموند فرويد، وللحكومات في المنفى، وحركات المقاومة، واللاجئين، وبدون المملكة المتحدة ستصبح أوروبا خانقة أكثر مما مضى. وستحافظ القارة على أتباع دون كيشوت وأحلامه الرائعة، وكذلك سانشو بانزاس، مما يقيد رحلات الآخرين الخيالية، وسيكون لها أنقاض روما، وروعة أثينا، وشبح كافكا، ولكنها ستكون قد فقدت مهد الحرية.لِننسَ الخرافة التي تقول إن أوروبا ستجتمع دائمًا في أوقات الأزمات، كما لو كانت ملزمة ببعض القوانين المادية، ولماذا يفترض أن أوروبا، بحكمتها العظيمة، ستستجيب لكل توجه استبدادي وشعبوي، مع تقدم مساوٍ للديمقراطية ومعاكس له؟ في العام الماضي، لم تفعل حقائق البريكسيت التي كانت تلوح في الأفق، أي شيء لإنقاذ انتخابات البرلمان الأوروبي، وأعطت النتيجة النهائية قدرًا ضئيلًا من الشرعية للدكتاتوريين، الذين يحتمل أن يصبحوا ديمقراطيين، مثل رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء التشيكي، أندريه بابيس. ويمكن القول باطمئنان، إنه بدون أن تضطلع إنكلترا بدورها الوقائي التاريخي، فإن خبث وباء الشعوبية سيزداد في القارة.إن الغرب لم يُختطف بل اختفى، فهل هذا يعني أن حلم الوحدة الأوروبية قد انتهى؟ هل خروج دولة عضو يطمس رؤية فيكتور هوغو، وفاكلاف هافيل؟ هل تناسب أوروبا الآن ما وصفه الرئيس الأميركي العظيم، أبراهام لنكولن، بأنه بيت منقسم على نفسه؟لا، ليس بالضرورة، إن التاريخ أكثر إبداعًا مما نحن عليه، ولا يزال لدى الاتحاد الأوروبي خيار إبقاء بريطانيا قريبة من القلب، والعقل، ولا يزال بإمكاننا الاستفادة من شريكنا الغائب، عن طريق إحياء الشراكة من خلال أعمالنا، ويمكننا خلق اتحاد ليس بين التكنوقراطيين؛ بل بين أتباع تشرشل.وبصفتي شخصاً لا يخجل من حبه لإنكلترا، سأستمر في الحلم بأوروبا التي، نظرا لما تتمتع به من حصانة مصدرها الإرث الذي تُرك داخل جدرانها، يمكنها أن تُظهر إحساسها تجاه أحد أفراد العائلة، الذي نكن له المحبة، والذي غادرنا، ولم نفقد الثقافة التي أعطتنا ماغنا كارتا، وعالمية غاليفر، و لندن العصرية، وما زلنا نعرف الليبرالية الحقيقية لجون لوك، وأيزايا برلين، حتى لو أصبح معنى الكلمة مشوشًا بالتفكير القاصر.إن هذا المذاق الحقيقي لأوروبا- مزيج من الحرية والشك الساخر- هو بالتحديد ما نحتاج إليه لتهدئة الوجوه المأساوية للدكتاتورية الديمقراطية، وفي الآونة الأخيرة رفضت حركة في إيطاليا مناصرة لجوناثان سويفت، تسمى "سردينز" (السردين)، الشعارات والشتائم، وأيدت الغضب البار والفكاهة. لقد تصدت زعيمة حزب الرابطة الشعبوية، ماتيو سالفيني، وأظهرت أن أسلاف الليبرالية أقوياء بقدر ما نحن خائفين.إن أوروبا لم تمت، إننا نناضل بدون إنكلترا، لكن مع الإنكليز.* برنارد هنري ليفي أحد مؤسسي حركة "الفلاسفة الجدد". «بروجيكت سنديكيت، 2020» بالاتفاق مع «الجريدة»