وداعاً أوروبا... أهلاً أميركا؟
أعلن مايك بومبيو خلال رحلة حديثة له إلى لندن: "كانت الإدارة السابقة تظن أن المملكة المتحدة ستعود إلى آخر الصف في حال اتخذت هذا القرار، لكننا ننوي أن نُرجعها إلى أول الصف"! كان وزير الخارجية الأميركي يشير في كلامه إلى تعليقات أوباما في عام 2016، حين هدد بتصعيب الاتفاقيات التجارية في حقبة ما بعد "بريكست"، في محاولةٍ منه لمنع البريطانيين من التصويت على قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. قال بومبيو إنه يتوقع أن يبدأ اتفاق تجاري بريطاني أميركي بحلول شهر نوفمبر المقبل، وهذا الموقف يتعارض مع رأي رئيسة اللجنة الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي تميل إلى المماطلة، فقد اعتبرت أن حصول بريطانيا على اتفاق تجاري بحلول 2020 "مستحيل". مع نهاية عقد جديد، وفي حين تسترجع بريطانيا العظمى مكانتها القديمة من الشرق إلى الغرب، ها نحن ندخل فصلاً جديداً من التحالف الإنكليزي الأميركي. عملياً، لقد تأخر هذا الفصل على نحو غريب، فمع نهاية الحرب العالمية الأولى سيطرت نيويورك على لندن باعتبارها العاصمة المالية للعالم، لكن بقيت بريطانيا قائمة على أنقاض إمبراطوريتها الغابرة، وبعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد تفاؤلها مقنعاً بالقدر نفسه. كانت قوة بريطانيا، إلى جانب الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، أساسية لمنع أوروبا من التحول إلى إمبراطورية نازية ألمانية واسعة. وحين استعمل رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل عبارة "علاقة مميزة"، كان قد أدرك أن جهود الولايات المتحدة العسكرية الداعمة خلال الحرب وخططها الإنقاذية النقدية لم تكن "مميزة" بكل بساطة بل أساسية لصمود بريطانيا، وأثبتت أزمة السويس صحة هذه الفكرة لاحقاً.في البداية، لم تلجأ بريطانيا إلى أوروبا سعياً إلى تحسين اقتصادها، ولم تُوقّع بريطانيا في 1957 على معاهدة روما التي تنص على إنشاء السوق الأوروبية المشتركة (عُرِفت لاحقاً بالاتحاد الأوروبي). ولم يجلب إدوارد هيث، زعيم حزب المحافظين، بريطانيا إلى تلك السوق الأوروبية المشتركة إلا في عام 1973. خلال السنوات اللاحقة، كانت المعارضة بطيئة وثابتة ونشأت في المعسكرَين السياسيَين المتنافسَين. قال توني بين، اشتراكي وسياسي في حزب "العمال"، قبل استفتاء عام 1975: "استمرار العضوية في السوق سيعني نهاية بريطانيا كدولة ذات حكم ذاتي كامل ونهاية برلماننا المُنتَخب ديمقراطياً كهيئة عليا لتشريع القوانين في بريطانيا". شاركه هذا الرأي الكثيرون، منهم مارغريت ثاتشر، كما يذكر جون أوسوليفان في وثائقه الخاصة. يقول جون إن تشكيك ثاتشر بالوحدة الأوروبية جعلها سابقة لعصرها. في الوقت نفسه، طغى الاتحاد السوفياتي على السياسة الخارجية المبنية على النزعة المحافِظة العابرة للأطلسي خلال السنوات الذهبية من عهد ريغان وثاتشر، لكن بعد مرور بضعة عقود، زاد الوضع سوءاً: بعدما حوّلت معاهدة "ماستريخت" في 1992 السوق الأوروبية المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي واستنزفت سيادة الدول الأعضاء، وبعدما كشف "القانون الأوروبي الواحد" في 1987 حقيقة الحركة التجارية الحرة، وبعدما فرضت "اتفاقية شنغن" في 1995 سياسة تأشيرات مشتركة وأنشأت حدوداً مفتوحة، وبعدما أوصلت العملة الموحدة والانهيار المالي في 2008 اليونان وإسبانيا إلى أزمات كبرى، وبعدما بدأ تدفق المهاجرين في المراكب يُغرِق نفق المانش، أصبحت مراجعة الوضع ضرورية. جاء الرد بحصد أغلبية انتخابية في استفتاء 2016، ثم أُقرّ القانون اللازم من جانب الأغلبية البرلمانية في 2019. أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أنه يتوق إلى تمضية الوقت مع أصدقائه في الولايات المتحدة وأضاف: "أقول لجميع الساذجين والطفوليين من معارضي الأميركيين في هذا البلد، إذا وُجِدوا، ويبدو أنهم موجودون، انضجوا واضبطوا أنفسكم"، ولا شك أن جونسون سيواجه تحديات كثيرة، بدءاً من مسألة "هواوي" وصولاً إلى السياسة الحمائية، ولكن قد يتعلق التحدي الأكبر على الأرجح بالانتقال من اعتبار بريطانيا دولة أوروبية افتراضية طوال 40 سنة إلى وطن مستقل لا يقع حليفه الأساسي شرقاً بل غرباً!
* مادلين كيرنز